واقع التعليم تحت الاحتلال: هل هو حق أم امتياز؟

"أنقذتُ كتبي....."، لا أستطيع نسيان هذه الجملة لفتاة من غزة لم تتجاوز العشرة أعوام عند سؤالها "ماذا أخذتِ معكِ من بيتك قبل النزوح في هذه الحرب؟"، وبهذه الجملة البسيطة، لخصتْ ما يعنيه العِلم والتعليم للفلسطيني، حتى في أصعب اللحظات. لطالما آمن الفلسطينيون في غزة، والضفة، والقدس، والداخل المحتل، ومخيمات اللجوء، وفي المنفى، منذ فترة طويلة بالتعليم لتثبيت بقائهم على الأرض، ولحماية الهوية والرواية، وكوسيلة للصمود وأداة لمقاومة المحتل وفرض الوجود. لكن تماماً كما يعترف الفلسطينيون بالتعليم كركيزة لوجودهم على هذه الأرض، يبدو أن إسرائيل قد اتبعت المنطق نفسه عكسياً، وبصورة ممنهجة لتدمير بنية التعليم، وتعزيز مفهومه كامتياز يراعي المستعمِر وصوله إلى المستعمَر بحسب رؤيته، وبصورة توائم طموحاته الاستعمارية ليس فقط للأرض، بل أيضاً لسكانها الأصليين.

اليوم، وفي أثناء استمرار الإبادة الجماعية في غزة لأكثر من ١٠٠ يوم، يستمر الاحتلال الإسرائيلي في حرمان أكثر من 2 مليون فلسطيني من حقوقهم في الوجود والعيش في أمان، بما في ذلك تصعيد انتهاكات حقوق الفلسطينيين في التعليم.

ومع بداية العدوان على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تم تعطيل العملية التعليمية بالكامل في 19 مؤسسة تعليم عالٍ في القطاع. كما تم تعطيل الجامعات هناك تماماً، وحُرم أكثر من 88،000 طالباً جامعياً من استكمال تعليمهم الحالي والمستقبلي، نتيجة قصف معظم الجامعات، وتدمير مبانيها كلياً أو جزئياً، بالإضافة إلى عدم وجود كهرباء أو اتصال مستقر بالإنترنت، فضلاً عن استشهاد وجرح كثير من الطلبة وأفراد الهيئة التدريسية، ولم يعد التعليم أولوية في ظل محاولة الفلسطينيين في غزة المحافظة على حياتهم في سياق إبادة جماعية تمارَس ضدهم.

لم تسلم المؤسسات التعليمية من القصف الهمجي الصهيوني

وفي ظل استمرار انتهاكات الاحتلال في الضفة الغربية وتصاعدها، وبسبب مخاوف من هجمات المستوطنين الإسرائيليين مع مزيد من القيود على حركة الفلسطينيين، قامت جميع مؤسسات التعليم العالي في الضفة الغربية، والتي تضم أكثر من 138،800 من الطلبة، بالتحول إلى التعلم عن بُعد ابتداءً من 9 تشرين الأول/أكتوبر.[1] 

القيود على حرية الحركة: تحكم من نوع آخر في حريتنا الأكاديمية

إن فرض القيود على حركة وتنقّل الفلسطينيين هو إحدى الأدوات المركزية التي تستخدمها إسرائيل لغرض تطبيق نظام الاحتلال والسيطرة على السكان الفلسطينيين وتغيير واقعهم الجغرافي.[2]  

يعكس التفتيت الجغرافي في الخريطة الحالية لفلسطين التاريخية جلياً أن تقسيم الضفة الغربية بمئات الحواجز العسكرية، وبناء جدار الفصل العنصري والمستوطنات، ومصادرة الأراضي، ومحاصرة قطاع غزة لأكثر من 16 عاماً، بالإضافة إلى التحكم بحركة الدخول إلى القدس والأراضي المحتلة، أدى إلى تشكيل حالة من المحلية في التعليم العالي، الأمر الذي تسبب بفقدان بعض الجامعات الفلسطينية، كجامعة بيرزيت، بعض سماتها الوطنية، بينما يواجه الطلبة صعوبات متزايدة في الوصول إليها.
ففي سنة 2000، بلغ عدد الطلبة من غزة في جامعة بيرزيت 350 طالباً،[3]  تم ترحيل العديد منهم، وبقي البعض الآخر في الضفة الغربية "بصورة غير قانونية" عرضة للترحيل في أي لحظة. وبحلول سنة 2005، كان هناك فقط 35 طالباً من غزة في جامعة بيرزيت، واليوم تناقص العدد إلى أقل من 10 طلبة غزيين.

لقد فرض الاحتلال بقيوده واقعاً جديداً للتعليم العالي في فلسطين، غيّر من التنوع الجغرافي لطلبة الجامعات، فأصبح في كل مدينة في الضفة الغربية، على سبيل المثال، عدد من مؤسسات التعليم العالي يرتادها الطلبة من المدينة وما يحيطها، ليس بالضرورة للحاجة إلى وجود هذا العدد من الجامعات، إنما بسبب الحواجز العسكرية التي تعيق وصول الطلبة من المدن المتعددة إلى جامعاتهم، لذا، فقد أصبح اختيار الطلبة لتخصصاتهم يتم تحديده بحسب الجامعة الأقرب جغرافياً إلى موقع سكنهم، وهو ما حرم كثيراً منهم، وخصوصاً النساء، حق اختيار التخصصات من جامعات بعيدة نسبياً.

تجريم الحركات الطلابية في الجامعات، وممارسة العقاب الجماعي بحق الطلبة

تعود الحركات الطلابية ومجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية إلى السبعينيات والثمانينيات، وكان لها تأثير كبير في المستويات السياسية، ودور في تعبئة الطلبة للعمل السياسي الوطني، وهو ما دفع الاحتلال إلى فرض عقبات وعقوبات جماعية عليهم.

إذ تم اعتبار الحركات الطلابية الفلسطينية كمجموعات "غير قانونية" ومجرمة، وتم استخدام ذلك لتبرير اعتقالات غير عادلة، وتحرش ومضايقات يتعرض له الطلبة في حياتهم اليومية.

منذ سنة 1982 حتى سنة 2023، تم اعتقال أكثر من 2000 طالباً من جامعة بيرزيت، ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، سجلت حملة الحق في التعليم اعتقال أكثر من 45 طالباً، بما في ذلك 3 طالبات (تم إطلاق سراح الطالبات الإناث بموجب اتفاق هدنة موقتة)، وهو ما رفع عدد طلبة جامعة بيرزيت الذين يُحتجزون في سجون الاحتلال إلى أكثر من 125 طالباً.

علاوة على ذلك، تم اقتحام جامعة بيرزيت 20 مرة منذ سنة 2002. في الأشهر الثلاثة الماضية فقط، تم اقتحام حرم الجامعة مرتين؛ في المداهمة الأولى، اعتقلوا 8 طلبة من الحرم الجامعي، كان أحدهم رئيس مجلس الطلبة المنتخب.

عزل التعليم العالي الفلسطيني

تستمر الانتهاكات على الصعيدين الوطني والدولي، إذ تحاول إسرائيل عرقلة تطور الجامعات الفلسطينية عبر عزلها عن المجتمع الأكاديمي الدولي؛ ففي شباط/فبراير 2022، وفي انتهاك بارز لحقوق الطلبة والأكاديميين الفلسطينيين، أصدرت القوات الإسرائيلية توجيهاً جديداً بعنوان "إجراءات دخول وإقامة الأجانب في منطقة يهودا والسامرة"، وقد بدأ العمل به في تشرين الأول/أكتوبر 2022، فوضع مباشرة الجامعات الفلسطينية تحت الحصار، وحرمَها السيطرةَ الأساسية على قراراتها الأكاديمية؛ إذ يمنح الاحتلالَ الإسرائيلي سلطة مطلقة لاختيار الكادر الأكاديمي الدولي، والباحثين الأكاديميين، والطلبة الأجانب الذين في إمكانهم الحضور إلى الجامعات الفلسطينية.

إن محاولة إسرائيل عزل الجامعات الفلسطينية ليست جديدة؛ ففي سنة 1980، أصدر الاحتلال الإسرائيلي الأمر العسكري رقم 854، والذي يضع مؤسسات التعليم العالي تحت قيادة الحاكم الإسرائيلي، وهو ما يمنح تلك الوظيفة السيطرة على التسجيل وتعيين الموظفين. كما طلب الأمر من جميع الموظفين والهيئة التدريسية الأجانب في الجامعات الفلسطينية توقيع بيان ضد منظمة التحرير الفلسطينية كشرط للحصول على تصاريح العمل. ويقوم تنفيذ هذه الإجراءات على نظام متعدد الطبقات وعنصري من السيطرة الاستيطانية الاستعمارية، يحرم الشعب الفلسطيني حقوقَهم الأساسية، وخصوصاً حق التنمية وتقرير المصير.

يواجه الأكاديميون والطلبة الدوليون الذين يسعون للدخول أو العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عقبات وقيوداً طويلة، بما في ذلك رفْض دخولهم الضفة الغربية، ورفض تمديد التأشيرات، وتأخير معالجة طلبات تمديد التأشيرة إلى ما بعد انتهاء صلاحيتها، بالإضافة إلى تأخير منح التأشيرات لفترات قصيرة، مع تقييد التأشيرات إلى الضفة الغربية فقط، والمطالبة بإيداع مبالغ كبيرة كضمان قبل دخول الضفة الغربية.

حق الرواية الفلسطينية:

إن العنصر المشترك بين كل احتلال حدث على هذه الأرض على مر التاريخ هو أنه لم يكن هناك أي تحكم للفلسطينيين في ما يتم تدريسه لأطفالهم في المناهج، حيث تم تجاهل هويتهم وجغرافيتهم وسردهم وروايتهم.

يسعى الاحتلال لمنع وتزييف الرواية، بحيث يكون التعليم في فلسطين تحت السيطرة الكاملة للاستيطان الإسرائيلي، وتتم محاربة السرد الفلسطيني بطريقة أخرى من خلال انتهاك الحقوق الرقمية للفلسطينيين أينما كانوا. بالإضافة إلى ذلك، من خلال مراقبة وانتهاك حقهم الأساسي في التعبير عن آرائهم ومشاعرهم في محاولة لكسر عزلتهم والتواصل مع العالم. من خلال استخدام مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ما يزال الاحتلال الإسرائيلي يمنع الشبان الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم الرقمية واستهداف الصفحات والمجموعات الرئيسية للطلبة وحجب ملفاتهم الشخصية خاصة خلال الحرب الإبادية الجارية على قطاع غزة.

ومع ذلك، لا يمكن فصل الاحتلال الإسرائيلي على الأرض عن الاحتلال في المجال الرقمي. مقاومتهم تشكل في الواقع مسؤولية هائلة علينا كفلسطينيين لحماية أرضنا وثقافتنا وهويتنا الفلسطينية من السياسات الإسرائيلية الممنهجة.


[1] وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

[2] "قيود على الحركة والتنقّل"، بتسيلم، 11/11/2017.

[3] حملة الحق في التعليم - جامعة بيرزيت.

نشرت هذه المدونة ايضا في مؤسسة الدراسات الفلسطينية 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.