في اليوم العالمي لحرية الصحافة لا يفتقد الصحفي الفلسطيني حريته فقط بل يفتقد حقه وحق أبنائه في الحياة والصحة والسكن والتعلم والتنقل.
كنا نعتقد واهمين أن جريمة اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في الحادي عشر من أيار عام 2022 قد تكون الأخيرة في مسلسل الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد الصحفيين والصحفيات والصحافة عموماً كمهنة ومؤسسات، تسرب إلينا هذا الوهم مسنوداً بحجم الاستنكار العالمي شعبياً ورسمياً للجريمة البشعة، ولمقدار البشاعة التي لحقت بصورة المحتل الإسرائيلي بعد أن اجتهد في محاولة تبييضها لخدمة مخططات التطبيع، لكن ثبت بالمطلق أن العالم أجمع وحتى حين يمتلك الرغبة فأنه لا يمتلك الإرادة للوقوف بوجه إسرائيل ومنعها من ارتكاب الجرائم، لا ضد الصحفيين فقط وإنما ضد الأطباء والمؤسسات الطبية والمرضى والأسرى والأطفال وكافة مظاهر الحياة. وثبت بالمطلق أيضا أن الاحتلال ما زال يسير وفق مقولته القديمة: "أمن إسرائيل" أهم من صورتها وأخلاقها.
بعد جريمة الاغتيال انشغلنا جميعا كمؤسسات صحفية وحقوقية في الجهود الرامية لمنع إفلات الجناة من العقاب، كانت الأمم المتحدة قد أقرت في عام 2013 اعتبار يوم الثاني من تشرين الثاني من كل عام (والذي يصادف أنه يوم وعد بلفور المشؤوم) يوما عالميا لوضع حد للإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.
بحسب مرصد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو للصحفيين قتل أكثر من 1600 صحفي في جميع أنحاء العالم، بين عامي 2006 و2023، مع بقاء ما يقارب 9 من 10 حالات من دون حل قضائيا.
نصيب فلسطين من هذه الجرائم كان كبيرا، وظل يزداد على الدوام، وها هو يبلغ ذروته الدموية في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
تفيد وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا أن 82 صحافيا فلسطينيا استشهدوا منذ تفجير الموساد الإسرائيلي لسيارة الصحفي والروائي الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت بتاريخ الثامن من تموز عام 1974 وحتى تاريخ السابع من تشرين اول أكتوبر 2023.
من بين هؤلاء الصحفيين الشهداء: 3 إيطاليين وبريطانيين وتركي ولبنانية وأردني وسوري وعراقي، بعضهم تم قتله على أرض فلسطين وبعضهم خارجها، بعضهم استشهد لوحده وبعضهم مع من كان برفقته، كما في حالة الشهيد غسان كنفاني حيث استشهدت معه ابنة أخته لميس وكانت دون سن السابعة عشرة.
منذ السابع من أكتوبر عام 2023 وحتى ساعة كتابة هذه الكلمات يوم التاسع والعشرين من نيسان لعام 2024 قتلا جيش الاحتلال الإسرائيلي ما يقرب من 140 صحفيا وصحفية، يقوم مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت بتوثيق قصصهم الإنسانية والمهنية.
عمل لا بد منه وهو أقل الواجب، ولكنه واجب ثقيل على النفس، تنظر في صور الشهداء، وترى شعلة الحياة والتوق إلى المستقبل في عيون هؤلاء الباحثين والباحثات عن الحقيقة، ممن آمنوا بأن الصحافة مهنة إنسانية، تقفز التفاصيل في وجهك لكي يكون التوثيق دقيقا، تلاحظ شارة الصحافة على الصدر فوق السترة الواقية وقد تشربت دم الشهيد، والخوذة على الرأس وقد أصابتها الشظية، والكاميرا ملقاة تئن وتئن.
تتسع الصورة، هناك شهداء آخرون من أسرة الصحفي، بينهم زوجته، بينهم أطفاله، بينهم والدته العجوز، وهناك منزل تدمر، وكتب تطايرت، وصور احترقت، وهناك مؤسسة صحفية أصبحت كومة من حجارة وسحابة من غبار.
تتسع الصورة أكثر هناك عشرات آلاف الشهداء ومئات الآلاف الجرحى والجوعى والعطشى والنازحين والمرعوبين، هناك شعب يختنق، وإنسانية تحتضر، وحرية يتشدق بها عالم يدعي أنه حر.
سؤال الحرية اليوم وكل يوم: في عيد العمال، وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، وفي الذكرى الثانية لاغتيال شيرين أبو عاقلة، وفي اليوم الحادي عشر بعد المئتين لهذه الحرب، سؤال على إلزاميته وأولويته إلا أنه ليس مقدما على سؤال الحياة، وهو سؤال يجب إعادة صياغته عالميا، فحق حرية الرأي الذي ناضلت لأجله البشرية طويلا وضمنته في إعلانها العالمي لحقوق الإنسان أصبح مقيدا بضوابط ومحددات يضعها أصحابا ومالكي لشركات التواصل، وتعاليم الحرية التي صاغها الأكاديميون كسرتها جامعاتهم المرموقة، في اليوم العالمي لحرية الصحافة تحتل إسرائيل التي تقتل الصحافيين المرتبة 97 على مؤشر حرية الصحافة، بينما تحتل فلسطين التي يقتل صحفيوها وشعبها المرتبة 156. معايير لا بد إعادة النظر بها بديلا عن تقديسها.
عما قريب ستعلن جامعة بيرزيت اسم الفائز بجائزة الشهيدة شيرين أبو عاقلة للتميز الإعلامي في دورتها الثانية، خصصنا الجائزة هذا العام لصحافيين وصحفيات غزة، وما زلنا نسعى ليكون متحف الشهيدة شيرين أبو عاقلة في مدينة رام الله متحفا لتاريخ الصحافة الفلسطينية بكل ما فيها من إبداع ونضال وشهداء...
قدرنا أن نظل نسعى حتى يمتلئ الوادي سنابل.
اللوحة للفنان الفلسطيني نواف سليمان