تربية الأمل كفعل مقاوم

 

"هنا،
عند مُنْحَدَرات التلال،
أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ."

(حالة حصار، محمود درويش)

 

 

"حكولي أصحابي إنه إذا ما عشت جو بيرزيت ما تعلمت في جامعة" هكذا قال لي طالب في سنته الأولى في جامعة محلية.

 

رغم ما تمر به جامعة بيرزيت، لا يزال المجتمع الفلسطيني يثق في هذه الجامعة وطاقمها. وهذا غير مفاجئ البتة لمن يعرف تاريخ بيرزيت، لكن هذا ليس موضوع هذه المقالة القصيرة. هذه الثقة منحت للعاملين (أساتذة وإداريين) مكانة اجتماعية شئنا أم أبينا، وغالباً ما نستمتع بها. ما أود الإشارة إليه هو أن هذه الثقة والمكانة تأتي مع مسؤولية. يجب علينا –أساتذة وموظفين، والجامعة ككل—احترام هذه الثقة من خلال الاهتمام بمسؤوليتنا المجتمعية سواء اتجاه المجتمع المحلي المحيط بنا أو المجتمع الفلسطيني بشكل عام. ارى أن ذلك يتحقق عبر الجانب الأكاديمي بشكل أساسي، والجانب الوطني أو الاجتماعي والسياسي. صحيح أن بيرزيت أظهرت أنها نموذج مختلف في جوها السياسي والوطني والديمقراطي على مدار تاريخها، والأمثلة كثيرة: البرنامج الصحي التكافلي؛ انتخابات مجلس الطلبة السنوي والقبول بنتائجه بل والتفات الطلبة ومكونات الجامعة المختلفة حول قرار الطلبة؛ انتخابات نقابة العاملين الدورية والقبول بنتائجها – حتى في جائحة كورونا؛ تغير رئاسة الجامعة بشكل لافت للنظر – وربما نرى لاحقاً أول رئيسة لجامعة فلسطينية في المستقبل القريب. كما شكلت بيرزيت شرارة لأحداث سياسية كبيرة في مختلف مناطق فلسطين التاريخية؛ فقد كانت مظاهرة في الجامعة كفيلة بأن يتحرك مخيم جباليا في غزة وبلاطة في نابلس في نفس اليوم أو في اليوم التالي.

إلا أن هذا الدور تأثر ويتأثر بالسياق الفلسطيني العام. تضاعف عدد الطلبة تقريباً في السنوات العشر الأخيرة، اختفى التنوع الجغرافي (لا طلبة من غزة تقريباً في الجامعة بعد أن شكلوا حوالي 40% في أواخر الثمانينات، ظهرت جامعة في كل محافظة) كدلالة على "نجاح" الاحتلال في فرض سياسة العزلة علينا، وسيطرة العشوائية على التعليم العالي، والأمثلة كثيرة. وكما فقدنا المبادرة كمجتمع فلسطيني، فقدت بيرزيت المبادرة على المستوى الوطني والأكاديمي. وزاد من صعوبة الوضع ظهور الجامعات الخاصة الربحية ومنافستها للجامعات مثل بيرزيت. ويبقى العامل الأبرز في التحديات الاحتلال الإسرائيلي وسياساته واستهدافه لبيرزيت بشكل خاص.

باعتقادي، ورغم هذا السياق الصعب –وليس المستحيل، أن الجامعة وطاقمها لا يزالون قادرون على تحمل تلك المسؤولية المجتمعية وفي خلق ما أسميه التربية على الأمل. نحن بحاجة، بل وواجب علينا، ابتداع الأمل وإشاعته. ويتجلى ذلك في إعطاء نموذج أكاديمي ذو نوعية عالية – ربما يشكل برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية خطوة في هذا الاتجاه.  هذا النموذج الأكاديمي له مسؤولية وطنية أيضاً. نحن نعيش تحت الاحتلال، وفي سياق استعماري عنصري ينغص علينا تفاصيل حياتنا اليومية التي ننشد العيش "العادي" فيها. لابد لتعليمنا أن يدرس هذا السياق دراسة جدية وعميقة تساهم في فهمه وخلق طرق ووسائل لمقاومته. أعتقد أننا نستطيع أن ننتج معرفة وطنية وإنسانية في نفس الوقت إذا اقتنعنا بقضيتنا وبحاجتنا الى التعليم والتعلم التحرري. وقد لا أزيد الكثير إذا أضفت أن هذا يشمل جميع المعارف والتخصصات سواء تلك المسماة علوم طبيعية أو اجتماعية.

هناك حاجة الى ابتداع أساليب احتجاجية تساهم في إشاعة الأمل. لا بد من اختراع طرق احتجاج مصممة خصيصاً لسياق جامعة بيزيت في ظل السياق الوطني الصعب، مثلاً: الاحتجاج في ظل العمل (رغم توقعي للتندر هنا – نعم نستطيع الإعلان عن رفضنا طلبة وعاملين ونحن نقوم بعملنا على أكمل وجه، مثلا لبس إشارة بارزة على اليد أو على الملبس) القيام بواجبنا اليومي أثناء الدوام أو خارج ساعات الدوام إن شعرنا بأننا في ذلك الوقت لم نقم بما يجب القيام به، الجلوس لوقت محدد ومعلن سلفاً وسط الجامعة، لباس زي لافت للنظر (لون فاقع، مثلا) للإعلان عن الاحتجاج، عقد نقاش فكري مفتوح أثناء تعليق ساعة دوام، أعمال تطوعية داخل الجامعة مثل التنظيف أو التشجير، الخ.

كل هذا من أجل عدم إغلاق الجامعة بتاتاً. بقاء الجامعة مفتوحة وقيامها بدورها المفترض هو جوهر أي اضراب أو احتجاج. وهذا كله من أجل الاهتمام وبذل أقصى جهد من أجل تطوير دور الجامعة الأكاديمي النقدي التحرري. تخيلوا مثلا احتجاج بعض أساتذة وموظفي أو طلبة بيرزيت على إجراء تجارب على الحيوانات في الجامعة، أو على زيادة المباني على حساب المساحة الخضراء في الجامعة، أو على تدريس نظرية في الرياضيات لباحث إسرائيلي (أو أمريكي) عنصري – لكن في نفس الوقت تعقد المحاضرات وبدون أي تعليق. [طبعاً هذا لا يعني تجاهل المطالب النقابية والطلابية الحقوقية خاصة في توفير حياة كريمة لجميع العاملين فيها، وظروف تعلمية ممتعة للطلبة وللأساتذة. ويبقى سؤال ما العمل إذا ما مست الإدارة بحقوق العاملين؟ الأساس في توجه إشاعة الأمل هو خلق أجواء الثقة بين أطراف الجامعة الثلاث، والعمل الدؤوب على استقرار الجامعة ما أمكن، وحل القضايا الخلافية.]

ما أريد قوله باختصار هي دعوة إدارة جامعة بيرزيت، ونقابة العاملين، والحركة الطلابية الى الالتفات بشكل جدي الى المسؤولية المجتمعية وتربية الأمل في المجتمع الفلسطيني الذي يمر بظروف أقل ما يقال عنها أنها تهدد قضيته الوطنية ووجوده على هذا الأرض. ولعل في قول شاعرنا محمود درويش ما يلهمنا في هذا الاتجاه. دعوتي الأساسية الى الأطراف الثلاث هي اعتبار تربية الأمل بوصلة لها لأي خطوة احتجاجية مستقبلية آخذين بعين الاعتبار الحاجة الى ابتداع طرق مختلفة في الحفاظ على الحقوق وفي التعبير عن الرفض والمقاومة.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.