"سرايا" و "العصا" و سيكلوجية الإبداع الفني في رواية إميل حبيبي ( سرايا بنت الغول)

"سرايا" و "العصا" و سيكلوجية الإبداع الفني في رواية إميل حبيبي ( سرايا بنت الغول) *

تحليل رمزي سيكولوجي للرواية

 

تشكل "سرايا" و "العصا" المفتاح الرمزي السيكولوجي لرواية #إميل_حبيبي (خرافية سرايا بنت الغول). "سرايا"، على الصعيد الواقعي للرواية، هي ابنة ابراهيم عم عبد الله بطل الرواية. و "العصا" هي عصا عمه ابراهيم، والد سرايا، التي ورثها فيما بعد من خلال أخيه جواد. وحتى ندرك أهمية هذا المفتاح الرمزي وعلاقته بسيكولوجية الإبداع الفني يجب الإشارة إلى وجود مستويين للبناء الروائي: المستوى الواقعي الموضوعي والمستوى الأسطوري الرمزي.

يتراوح الفعل الروائي بين هذين المستويين حيث يعتمد بشكل أساسي على تداعيات الذاكرة. والفعل الروائي هنا هو عبارة عن السيرة الذاتية أو كما يسميه الكاتب "السيرة_المسيرة"، وبهذا يتحدد المستوى الواقعي الموضوعي بالجانب التاريخي والحياتي من السيرة، ذلك الجانب الذي يرتبط بمكان محسوس وزمن تاريخي وتحكمه إرادة العقل الواعي. بينما يرتبط المستوى الأسطوري الرمزي "بسيرة الفكر" أو "سيرة الإبداع"، إذا صح التعبير، وبالتحديد بسيرة النضوج الفكري والسيكولوجي لعبدالله (بطل الرواية) في "طريق آلام" الكتابة الإبداعية. وهذا المستوى لا يخضع لمقاييس الزمن والمكان لأن ميدانه الرئيسي في العقل الباطني أو اللاوعي.

بعبارة أخرى تمثل الرواية "رحلة عمر" (عمر الكاتب ربما). وكأي رحلة نمطية فإن البعد التاريخي الخارجي منها يتقابل مع البعد السيكولوجي الداخلي ، أي الرحلة داخل "الذات" لمعرفة مكبوتاتها ودهاليزها المظلمة. وتتضح هذه الثنائية حتى في عنوان الرواية نفسه. فكلمة "خرافية" في العنوان، كما يقول الكاتب، هي من الأصل الثلاثي "خرف" وتجتمع فيه على مختلف مشتقاته معنى واحد وهو "جني الثمار"• وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء الوقت الكافي للنضوج. والنضوج هنا هو من ناحية التقدم في السن ، أي الاختمار في"آتون"الزمن. ومن ناحية أخرى هو الاختمار اللاشعوري الجمعي الذي "أولد" "الخرافية" أو الصنعة الابداعية. فعندما يقول الكاتب في خطبة المؤلف "شجرة الأجاص زرعت لتطعمنا أجاصاً" فإنه يعني بأن الكاتب الإبداعي في نضوجه يجب أن "يثمر" عملًا فنيًا. و "الغول"، كما يتضح من الرواية، ليس فقط الحيوان الخيالي بل هو من "الإيغال". (الرواية ص 89): الإيغال في الزمن التاريخي (المستوى الموضوعي لحالة تقدم السن)، والإيغال في أغوار الذاكرة، أي الإيغال في الزمن السيكولوجي للاوعي.

 

"سرايا" و "العصا" هما رمزان مكملان لبعضهما. فمن ناحية البنائية الفنية للرواية فإنهما تشكلان الجسر المتحرك الذي يربط بين المستويين الخارجي والداخلي (الموضوعي/الأسطوري، الواقعي/الرمزي). ولكن من الناحية الأخرى والأهم فإنهما ترمزان إلى مضامين اللاوعي الجمعي عند بطل الرواية في رحلته الباطنية لإدراك الذات واكتمالها.

فسرايا هي "الروح الجمعية" لعبدالله بطل الرواية، أو كما يسميها #غوستاف_يونج (C G Jung)، صاحب مدرسة التحليل النفسي، #الأنيما (anima) أي "الأنثى" في اللاوعي الجمعي للرجل. وللأنيما، كما يعتقد #يونج، رموز وأشكال مختلفة على صعيد الحياة الواقعية للفرد. فالأم والزوجة (أو أي أنثى) والبحر والعصا والكهف، على سبيل المثال، كلها رموز مألوفة "للأنيميا". وعندما يكون الكلام عن الإبداع الفني فإن الروح الجمعية هي الإلهام، النقطة الوسطية بين الوعي واللاوعي، هي شعلة الفكر، هي السماء في الإنسان ، هي إلهة (Goddess) الشعر عند الشعراء القدماء التي تقطن على مرتفع #أوليمبوس وتلهم #هوميروس في (الإليادة) و (الأوديسا)، وهي "بيترس" التي تقود #دانتي وتخرج به من ظلمات "الكوميديا الإلهية"، وهي عروس الشعر فوق قمة جبل سيناء التي تلهم #ميلتون في "الفردوس المفقود"• ويسعى الفنان دائمًا إلى الالتحام أو التوحد النفسي مع روحه الجمعية، ولحظة التوحد هذه هي لحظة "ميلاد" ولحظة انسجام بين العقل الواعي والعقل الباطني.

إن "لسرايا" #إميل_حبيبي جميع المعاني السابقة، الأمر الذي يبرزه الكاتب من خلال توظيفه للأسطورة الفلسطينية التي اختارها كإطار بنيوي وعنوان لروايته. تتعلق الأسطورة بفتاة صغيرة محبة للاستطلاع خطفها "الغول" في إحدى جولاتها الاستطلاعية اليومية حيث تبناها وأسكنها قصره في أعالي جبل. فذهب ابن عمها يبحث عنها في البراري. وكانت مشهورة بجدائل شعرها الطويلة والتي لم يمسسها مقص. فكان يناديها وهو يبحث عنها "سرايا، يا بنت الغول، دلي لي شعرك لأطول !" فسمعته فدلت له جديلة فتعلق بها وصعد عليها. فدست مخدراً في شراب الغول، فنام لا حراك فيه فانسلت مع ابن عمها وعادت إلى قريتها (الرواية ص50). إذن ترتبط "سرايا" في الأسطورة "بالقصر المشيد في أعالي جبل" (الأماكن المرتفعة) وبحب الاستطلاع (المعرفة) بالهداية والإنقاذ أو إيجاد طريق الخلاص، في لحظة التقائها مع ابن عمها، الباحث عن سراياه، أي لحظة التوحد، يتم التغلب على "الغول" (سيطرة الظرف الموضوعي كما يراه العقل الواعي).

و "سرايا" في الرواية، مثل "سرايا" في الأسطورة ، ترتبط بالأماكن العالية، كصخرة فوق جبل الكرمل، أو صخرة مختارة على شاطئ الزيب وأحيانًا بعين الماء أو البحر، وهي ابنة عم عبدالله التي أحبها في صباه وكان يجالسها فوق "الكرمل"• وكنتيجة لهذا التوحد في الصبا كتب عبدالله أعماله الإبداعية قصة "بوابة مندلباوم" و قصة "النورية" ثم رواية "#المتشائل" قبل أن يتقدم به الزمن ويفقد "سراياه". وكما تسرح "الذاكرة من تحت أقدام الزمن"، تسرح "سرايا" ويضل عبدالله الطريق، تظهر "سرايا" له في شيخوخته وتلاحقه كالشبح دون أن يكون بمقدوره تحديد مكانها. يتراءى طيفها له وهو في مرتفعات "نترا" وفي الطائرة (لاحظ مرة اخرى ارتباط سرايا بالأماكن المرتفعة) وترتبط في ذهنه "بكهف أفلاطون" (كهف المعرفة أو الفكرة). ويبقى سر بحثه عنها، كما يعترف، أشبه بسر "شمشون الجبار" وسر "أخيل"• الجدير بالذكر أن شمشون وأخيل نموذجان من التراث الثقافي الإنساني يمثلان، حسب مدرسة #يونج في التحليل النفسي، الحالة التي يرفض فيها العقل الواعي الروح الجمعية أو "الأنيما" في اللاوعي حيث تكون نتيجة هذا الرفض سلبية. فالروح الجمعية عند شمشون هي في زوجته وعند أخيل في أمه.

نلاحظ أن لقاء سرايا في الرواية بابن عمها فوق جبل الكرمل أو على صخرة شاطئ الزيب يمثل توحدًا حسيًا بين عبدالله و "روحه الجمعية"لأنه لقاء يتم في النصف الأول من العمر (مرحلة الشباب). في هذه المرحلة نرى أن سرايا هي فتاة من "لحم ودم" ونرى أن علاقتها مع ابن عمها هي علاقة حبيبة بحبيبها فلم يكن يشعر عبدالله في سن شبابه بمشكلة التوحد النفسي مع سراياه، لأن مشكلة التوحد النفسي مع "الروح الجمعية" هي، كما يعتقد #يونج، مشكلة الشيوخ وليست مشكلة الشباب، مشكلة تبرز عادة في النصف الثاني من العمر. "إن مواجهة الروح الجمعية ليست من مهام الشبان ومشاكل الصبا ولكنها مشكلة النصف الثاني من العمر لأن التوحد مع الروح الجمعية يهدف في النصف الأول إلى الالتحام الحسي بينما يهدف في النصف الثاني إلى الالتحام النفسي في العالم الباطني من خلال الصورة الممثلة في العالم الخارجي" (1). تطرح رواية إميل حبيبي بوضوح بأن المشكلة التي يواجهها عبدالله في شيخوخته تكمن في بحثه عن سراياه واسترجاعها ليتوحد معها نفسيًا حتى يؤدي"صنعته الإبداعية"، هنا كتابة رواية "خرافية [سرايا بنت الغول نفسها].

والسؤال الذي يشكل الآن محور الرواية هو : هل اهتدى بطل الرواية إلى حقيقة سراياه (روحه الجمعية) وميزها وفهمها واسترجعها إلى بنائه السيكولوجي؟ تجيب الرواية على هذا السؤال على المستوى الرمزي. (ان حقيقة أن رواية "سرايا بنت الغول" هي الآن بين أيدينا كعمل فني لأكبر دليل على أن عبد الله قد وجد سراياه). وهنا بالطبع تبرز الأهمية الرمزية "للعصا"•

فالعصا هي البديل والمكمل الرمزي لسرايا. فكما اقترنت سرايا بالنصف الأول من عمر عبدالله، اقترنت العصا بالنصف الثاني. سرايا، كما ذكر سابقًا، هي ابنة عمه ابراهيم التي أحبها والتقى معها في شبابه، والعصا هي عصا عمه ابراهيم أيضًا التي ورثها في شيخوخته. فكما تعلق ابن عم سرايا بجديلة شعرها حتى ارتقى إلى مكان إقامتها في الأسطورة الفلسطينية فإن بطل الرواية، عبدالله، يتعلق بالعصا ذات الاطواق الثلاثة (لاحظ الشبه بين جديلة سرايا وشكل العصا ذات الأطواق) ليهتدي إلى سراياه أي ليلتحم بروحه الجمعية. فالتحام عبدالله(الكاتب/الفنان) بسراياه بواسطة العصا يمثل تفاعل الأحداث الباطنية الذي يتحقق في أعماق نفسه أثناء عملية الإبداع الفني (هنا كتابة الخرافية) دون أن يكون على وعي بما يحدث في داخله، حيث ترمز العصا إلى ثلاثة مستويات من هذه الأحداث الباطنية، إذ أن اقترانها برقم "٣" ليس بمحض الصدفة. فهي ذات أطواق ثلاثة كان يصر عمه ابراهيم على أنها "مستورة" فحسب. " وكانت في ملته واعتقاده، ترمز إلى عقد شتى، ولكنها دائمًا ثلاثة ثلاثة - منذ أيزيس، وأزريس، وحوراس" (ص127). الطوق التحتاني فهو "عقدة أوديب"، الطوق الفوقاني "عقدة اسحق"، والطوق الوسطاني فهو "عقدة برج بابل"•

لاحظ الآن المستويات الثلاثة من اللاوعي التي تمثلها هذه العقد والتي تتوازى في الوقت نفسه مع الثالوث المسيحي. #آيزيس و #أوديب يرتبطان بالأم (آيزيس هي إلهة الأمومة عند المصريين القدماء وعلاقتها الجنسية ب #أوزريس، أخوها وزوجها ومولودها الروحي تشبه إلى حد بعيد علاقة أوديب بجوكاستا، أمه وزوجته). أوزريس، إله الخصب والعطاء والتضحيات، واسحق يرتبطان بعقدة الأب، الطاعة والتضحية والمثول للقيم العليا. #حوراس (إله الشمس عند المصريين) وبرج بابل يرتبطان بعقدة القوة والمعرفة المجردة وهي العقدة التي نصف بها الشخص الذي يسعى دائمًا إلى إخضاع كل التأثيرات والمؤثرات لسيطرة العقل الواعي دون مراعاة فيما إذا كان مصدر هذه التأثيرات والمؤثرات هو في الظرف الموضوعي أو في المستوى المجرد الذي لا يخضع لمنطق الإرادة الواعية،كما فعل أهل برج بابل في الأساطير التوراتية. (الجدير بالملاحظة أن تسمية أجزاء الرواية الثلاثة يتناسب مع هذا التحليل: "يابا"، "يا ماه"، "آمين"). فالعقدة الأولى تمثل الجانب الحيواني في لا وعي الإنسان والعقدة الثانية الإنسان النبي والعقدة الثالثة تمثل الإنسان الإنسان. تقول الرواية:

"كانت تلك العصا هي عصا عمي ابراهيم. وكنت أوهم نفسي بأنه سيورثني إياها.

فقد أوهمت نفسي بأنه اختارني من بين إخوتي أحمعين وأفشى لي سر الأطواق

الثلاثة. قال : كل طوق يخفي مرآة. وأما مرآة الطوق الأسفل فغير صقيلة، فتنعكس عليها صورة الإنسان الحيوان. وأما مرآة الطوق الأعلى فصقيلة. فتنعكس عليها صورة الإنسان الإنسان. وأما مرآة الطوق الوسطي فمقعرة "حتى تتلاشى جميع الصور في حقها وتبقى هي وحدها وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته" . فتنعكس عليها صورة الإنسان النبي". (ص90).

يمسك عبدالله العصا وينصبها أمام صدره وما فوق الرأس وينفخ من روحه نفخات ثلاث في الدوائر الثلاث. في الدائرة الوسيطة ينفخ باسم سرايا بنت الغول، أي أنه يحدد مكانها في الطوق الوسطي (الطوق الذي يمثل الإنسان النبي)، الطوق الذي يجمع بين الروح والجسد، بين الإله والإنسان ، بين مدلولات السماء و مدلولات الأرض. هو الطوق الذي يرتبط "بالروح الجمعية" التي تتوسط عقدة القوة والمعرفة عند الأنا الواعية (عقدة بابل) مكبوتات اللاشعور (عقدة أوديب). وليس أدل على ذلك مما يستشهد به عبدالله من رسالة #حي_بن_يقظان ل #ابن_طفيل."••• وكان الوسط منها أعدل ما فيها واتمه مشابهة بمزاج الإنسان … فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى … إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل وأنه بمنزلة نور الشمس دائم الفيضان على العالم" (ص53).

#إذن بتحديد مكان "سرايا" في الطوق الوسط عثر عبدالله على "أنثاه" الضائعة في متاهات اللاوعي المظلمة، أي أنه وعى روحه الجمعية، وهي نقطة الإشعاع، "ونور الشمس .. دائم الفيضان". من ناحية أخرى أكملت "سرايا" الرقم "٣" الذي يعكس المستويات الثلاثة من اللاوعي إلى الرقم "٤"• الرقم "٣" عند #يونج هو رقم ذكوري. أما الرقم "٤" الذي تكمله "سرايا" فهو رقم أنثوي يرمز إلى النضوج والاكتمال وهو الرقم الذي يربطه #يونج بعملية الإبداع الفني عندما يقول "إن للعملية الإبداعية صبغة أنثوية ، فإن العمل الإبداعي إنما ينبع من أعماق اللاشعور، أو إن شئت فقل من ملكوت الأمهات!" (2).

ومن هنا تبرز أهمية الجزء الرابع والأخير في الرواية والذي يكمل الأجزاء الثلاثة الأولى. إذ يبدأ هذا الجزء بآية قرآنية تلخص وعد الله (عز وجل) بإرجاع النبي موسى (الطفل) إلى أمه. بمعنى أن تعلق بطل الرواية "بسرايا" هو أشبه بتعلق النبي موسى بأمه، والعثور على "الأنثى" هنا والالتحام الروحي معها فتح في كلا الحالتين نواميس الإبداع. وهو ما يذكرنا أيضًا بتعلق #جيته، الفيلسوف والكاتب الألماني، بأمه حينما يقول قولته المشهورة على لسان بطله#فاوست "الأمهات ! الأمهات ! يا لها من كلمة عجيبة ترن في الآذان رنين السحر •"

كل ما سبق وقلته حتى الآن عن العصا يتعلق بجزئها الأسفل. ولكن الكاتب يركز أيضًا على الجزء الأعلى، مقبض العصا، عندما يصفه بأنه "منحوت على شكل صليب غير مألوف الشكل : بيضاوي الهيئة تتوسطه فتحة كان من الممكن أن تحتوي وجه ابن آدم. وله ذراعان ممدودتان أفقيًا أشبه بذراعي ابن آدم يرتدي ثوبًا له كمان فضفاضان." (ص128).

أظن أن إميل حبيبي هنا يصف صورة #المندالة، رمز الكون والكمال عند الهندوس والبوذيين والتي يعتبر الصليب المسيحي إحدى أشكالها. (لاحظ كيف ينطبق وصف صورة المندالة على وضع عبدالله حين ينصب العصا أمام صدره وما فوق رأسه ويسير في "طريق الآلام"). إن "المندالة والصليب" رمزان للرقم "٤"، رمز وحدة الكون بجهاته الأربع والإنسان في المركز، وعلى الصعيد السيكولوجي أو الروحي فهما يرمزان إلى اتحاد الروح والجسد، إلى انسجام العقل الواعي مع العقل الباطني وإدراكه له وفي نفس الوقت تعكسان قمة التدفق الروحي. وبلغة #يونج فهما ترمزان إلى اكتمال عملية "التشخص" (individuation)، أي العملية التي يطور فيها الفرد شخصيته الخاصة والمتميزة من خلال إدراك العقل الواعي لأهمية اللاشعور الجمعي (هنا الروح الجمعية) وبهذا يحقق درجة من الانسجام السيكولوجي بين "الأنا الواعية" ومضامين اللاشعور. لمقبض العصا إذن يمثل إعادة رمزية مختصرة لعملية التكامل النفسي (التي يطلق عليها في الرواية طريق الآلام) لعبدالله،بطل الرواية، وذلك من خلال التحامه النفسي بسراياه وهو في خريف العمر. وليس أدل على هذا الالتحام من أن مقبض العصا (الذي يرمز إلى شكل المندالة) يجمع في آن واحد بين "علامة الاستفهام العصرية" ( المعرفة، حب الاستطلاع، العقل الواعي ) وبين "علامة الشطب. ممنوع" ( مضامين اللاشعور التي يشطبها أو يتهرب منها العقل الواعي).

وبهذا أقرأ رواية #خرافية [#سرايا_بنت_الغول] كسيرة "فكر"، كسيرة لتطور أو تفاعل عملية التكامل النفسي التي يعيشها الكاتب أثناء بحثه عن #سرايا في "طريق آلام" الإبداع الفني، تلك العملية التي أتت أكلها بميلاد "خرافية"، الرواية. على أنه يجب الملاحظة بأن الكاتب قد حمل "سرايا" و "العصا" رمزية لا يحتملها النص. #إميل_حبيبي في هذه الرواية يتعامل مع الرمز كما يتعامل الشاعر وليس كما يتعامل الروائي. ولهذا فقد بدا وكأن الرواية تعاني من شرخ واسع بين المستوى الموضوعي الواقعي الذي تكلمت عنه سابقًا وبين المستوى الرمزي. أي أن الكاتب لم يطور الرمز من خلال التوظيف الروائي "للمرموز إليه"، بل بدلًا من ذلك، يحمله بالمعاني والمدلولات بطريقة مجردة تعتمد على المدلولات النمطية في التراث الإنساني، الثقافي والديني. فنحن مثلًا لا نعرف كثيرًا عن "العصا" من خلال استعمالها من قبل بطل الرواية في عالمه الواقعي، بل نعرف أهميتها الرمزية من خلال الربط الفلسفي المجرد والمباشر بعصا موسى وعقدة أوديب وعقدة اسحق وأهل برج بابل وبالصليب والمندالة. وإذا كان لنا أن ناخذ بما يقوله #إميل_حبيبي عن نفسه في مقدمة الرواية بأنه لا يخطط "لتداعيات الرواية قبل الشروع في كتابتها، بل [يرخي] العنان للاسترسال الباطني حتى التسيب أحيانًا"، فمن الواضح إن استعمال الرمز كما جاء في الرواية لا يتناسب مع أساليب الاسترسال الباطني التي يتكلم عنها لأن التجريد الرمزي لا يمكن ان يكون إلا من فعل الإرادة الواعية.

هوامش :

———-

* إميل حبيبي، خرافية [سرايا بنت الغول]، (حيفا: دار عربسك ، 1991، الطبعة الأولى). الاقتباسات من الرواية وأرقام الصفحات المشار إليها في المقال تعود إلى هذه الطبعة.

1. Jolande Jacobi, The Psychology of C.G. Jung (Yale University Press: New Haven & London, 1973, p. 123. For further investigation, see C. G. Jung, THE ARCHETYPES AND THE COLLECTIVE UNCONSCIOUSNESS (Bollingen Series X X, Princeton University Press, 1968).

2. B. Ghiselin, “The Creative Process” (A Symposium), ( New York: A Mentor Book, 1958).

كما هو مقتبس في كتاب "مشكلة الفن" للدكتور زكريا ابراهيم (منشورات مكتبة مصر)، ص130.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.