شهادة أدبية: الأدب الفلسطيني بعد أوسلو

تلقيت مرة دعوة مشتركة من المركز الثقافي البريطاني وجامعة الخليل ومعهد روهامبتون في لندن لحضور افتتاح معرض خاص لأعمال وليم شكسبير. وقد أثارني نص الدعوة التي تزامنت بعيد الاتفاقيات المرتبطة بأوسلو بتقسيم الأراضي المحتلة إلى مناطق "أ" و "ب" و "ج" والاتفاقية الخاصة بمدينة الخليل التي بموجبها قسمت المدينة إلى H1 و H2.

"يسر حضرة صاحب الجلالة الملك لير والسيد وليم شكسبير دعوتكم لحضور افتتاح المعرض الخاص لأعمال وليم شكسبير وحضور العرض الفني الترفيهي الذي تقيمه الفرقة الملكية البريطانية بالتعاون مع كلية الآداب في جامعة الخليل يوم الخميس الموافق 30/07/1998، تحت عنوان "جلالة الملك لير يزور الخليل".

لم أستطع استبعاد المقارنة بين ما حل بالملك لير ومملكته وما حل بالرئيس عرفات والوطن الفلسطيني، فكتبت هذا النص على لسان جلالة الملك لير متخيلًا ما كان يدور في خلده أثناء زيارته التاريخية الرمزية لمدينة الخليل.

"أسترجع ذكرى الأيام القديمة لمجالس الفكر الصامت ، لمجالس الثورة الجميلة، وأتنهد على بقايا أشياء كثيرة كنت أطلبها وأسعى للوصول إليها، إنني أبكي بغزارة مع أن عيوني غير متعودة على البكاء … أبكي على رفاق اختفوا في ليل الموت الأبدي … أبكي على وطن حذف الزمان مصيبته من كتب التاريخ، وبحزن شديد أنتقل من مصيبة إلى أخرى لكي أدرك مصيبتي القديمة وفي كل نقلة أدفع الثمن من جديد وكأنني لم أدفعه من قبل."

كتب وليم شكسبير "مأساة الملك لير" بين عامي 1605-1606 ليبين أبعاد المصيبة (أو المصائب) السياسية والنفسية والاجتماعية والثقافية التي حلت بالملك لير نتيجة قراره الكارثي بتقسيم مملكته إلى ثلاثة أجزاء توزع بين بناته الثلاث بحيث تحدد مساحة الجزء الذي تحظى عليه كل واحدة منهن بمقدار الحب الذي تبديه في إجابتها على سؤاله: 'من منكن تحبنا أكثر ؟ سوف نمنحها وزوجها المنتظر القسم الأكبر من مملكتنا.'

يقف الملك المسن على المسرح ويعلن عن قراره بتقسيم المملكة ويطلب من أحد مساعديه بأن يناوله خارطة البلاد :

"'آن الأوان أن نعلن عن غرضنا الدفين.'

'ناولني الخارطة من هناك،

ليكن بعلمكم بأننا قسمنا مملكتنا إلى ثلاثة أجزاء، هدفنا الذي لا يتزحزح مع الأيام هو أن ننفض غبار الحكم عن سنين عمرنا،

فلقد بلغت من العمر عتيًا، وأتخلى اليوم عن هموم الحكم للقوى الشابة حتى يتسنى لنا الزحف نحو قبرنا بهدوء واطمئنان…

فقط نحتفظ بالتاج والصولجان،

وحاشية من مئة فارس مغوار.."

ناولني خارطة البلاد… ما أشير إليه على الخارطة برأس العصا من هنا إلى هنا من نصيب البنت الكبرى ومن هنا إلى هنا من نصيب البنت الوسطى، وما تبقى يوزع مناصفة بينهما إضافة لحصتيهما، أما البنت الصغرى فلم تقل لي شيئًا… فلتعلم حقاً أن تعلم أن اللاشيء يقود إلى اللاشيء.

عليك أن ترى أفضل يا جلالة الملك، قال له أحد مستشاريه الأوفياء، أنت تقطع الأرض على الخارطة كما تقطع الشاة المذبوحة.

احتفظ فقط بالتاج والصولجان والعرش الذي يرمزان إليه.

افتح عينيك يا جلالة الملك لترى أفضل.

إذا لم تسكت فسوف أقطع عنقك بسيفي هذا، أخرج، أنت مطرود من مملكتي .. وتر القوس مشدود ولا بد أن ينطلق السهم .. فلا تقف بين التنين وغضبه.

أنت أعمى البصيرة يا جلالة الملك .. خليني معك وخذ عيني لترى بهما.

التاج والصولجان وحاشية من مئة فارس مغوار…أنت أنت يا خادمي الأبله، قل لي ما هو الفرق بين "أبله مر" و "أبله حلو".. علمني.

أحضر من نصحك بتقسيم البلاد واجلسه بجانبي فتكون أنت هو، وانتظر حتى يظهر الأبله "الحلو المر" فيكون هذا هو أنا و الأبله ذاك هو أنت، يجيب الأبله.

تسميني أبله أيها الأبله، سوف أحتفظ بالتاج و …..

أعطني بيضة دجاجة، قال الأبله، وأنا أعطيك "تاجين" بدلًا من تاج واحد.

تاجان! يا إلهي ! كيف

سوف أكسر البيضة إلى نصفين، وبعد أن آكل المح أعطيك تاجين .. قشرة البيضة مقسومة إلى نصفين فارغين، فإذا حاولت أن تثبت تاجك بينهما فسوف تتساقط كل الأجزاء .. أنت يا جلالة الملك تحمل مؤخرتك خلف ظهرك، وتجلس عليها فوق الأوساخ.. أنت تحمل تاجًا فارغًا بعد أن تخليت عن تاجك الذهبي، أرض مملكتك.

شيخوختك كنوز الشفق، يا جلالة الملك، من نهار قد غابت شمسه ويكاد الليل يبتلع بقاياه، يبتلعها بالتدريج … إن الليل صنو الموت وأدعو الله ألا تنطفئ جذوة ذلك الشفق، فالتاج بدون الأرض قشرة بيضة جوفاء أكل محها أحد غيرك. (الاقتباسات من المسرحية وترجمتها بتصرف)

يعكس هذا النص الإطار، مجازيًا وواقعيًا ، روح الزمن لمرحلة ما أسماه مؤتمركم الموقر "الأدب الفلسطيني بعد أوسلو"، وربما الأصح أن نقول "الثقافة الوطنية ما بعد أوسلو " على اعتبار أن الأدب، من شعر وقصة ورواية وفن، في سياق انتاجه الموضوعي، هو أحد حقولها ووسائل التعبير عنها. أقول "روح الزمن" بمعنى خصائص المرحلة التي تميزها عن المراحل السابقة ليست بالضرورة بالمقياس التاريخي الذي يقرن البدايات والنهايات بأحداث سياسية أو تحولات تاريخية أو مصائب/كوارث كبرى تحل بالشعوب. وعلى فرض قبولنا بتسمية المرحلة "بمرحلة ما بعد أوسلو"، فإنني أرى على الأقل ثلاثة عوامل رئيسية تشكل في ترابطها وتفاعلها الإرهاصات النفسية والفكرية والثقافية "لروح المرحلة" للأدب الفلسطيني بعد أوسلو، أولًا تقطيع أو تجزئة الأرض التي جاء بها أوسلو، وثانيًا ما ترتب عليها من تبدد "الحلم" أو ما يسميه إدوارد سعيد "الفكرة الفلسطينية الموحدة"، وثالثًا قيام سلطة فلسطينية بخصوصية ليس لها شبيه في حركات التحرر ضد الاحتلال والاستعمار في العالم.

لقد تشكل الأدب الفلسطيني، بشكل عام، اجتماعيًا وسياسيًا بناء على الفهم الثقافي الشمولي للقضية الفلسطينية، وكانت المعادلة بالنسبة للكاتب/ الشاعر الفلسطيني منذ النكبة وحتى ربما التوقيع على اتفاقيات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية ، أن إسرائيل هي العدو الذي يحتل فلسطين الجغرافيا وينفي هوية أصحابها، ولكن فلسطين الصورة والفكرة والحلم والثقافة والتراث والهوية بقيت مملكة الكاتب الفلسطيني، ترتقي إلى مستوى اليقين الذي لا يخضع لأي تساؤل أو انتقاد أو اختيار على الرغم من التطورات السياسية والانتكاسات المتلاحقة التي رافقت القضية الفلسطينية، إما لأن الكاتب الفلسطيني كان مسلحًا بوعي رومانسي بشأن "الحلم" والمقاومة والألم والاضطهاد ولم يكن يرى بعين الناقد أو المحلل الموضوعي المبادرات والتكتيكات السياسية التي كانت تمرر تحت غطاء "الحل السلمي للقضية الفلسطينية"، أو لأن الكاتب الفلسطيني، وخاصة في حقبة الكفاح المسلح الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية، تماهى مع الشعار السياسي المطروح لدرجة طمس فيها "أناه" الإبداعية، وكان لا بد لهذا التماهي إلا أن يساوي بين "القلم" و "البندقية" في الخطاب الثقافي والسياسي الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومع أنه في واقع الحال قد وجهت "البندقية" القلم على غرار "السيف أصدق إنباءً من الكتب.." لهذا جاء الأدب الفلسطيني بمجمله في هذه المرحلة (الذي أطلق عليه غسان كنفاني "أدب المقاومة") تعبوياً وثوريًا مسلحًا بقوة "الفكرة الفلسطينية" وحتمية انتصارها.

والآن لماذا أوسلو، وما بعد أوسلو ! ربما يتساءل المرء من باب السخرية الموجعة بأن أوسلو لم يطبق أصلًا وبالتالي كيف يكون له "بعد"! بالتالي والحالة هذه فإن "أوسلو" وجه أسود آخر من أوجه النكبة وإحدى تجلياتها المأساوية عبر الامتداد الزمني لوقوعها. فما الذي تغير بالنسبة للكاتب الفلسطيني سواءً من حيث موضوعه أم من ناحية جماليات أدبه !

من منظور جماليات الأدب الفلسطيني، فقد تسبب أوسلو (الذي وقع بين منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" في تشظي الفكرة الفلسطينية الجامعة، تشظ أصاب السيكولوجية الفلسطينية وشرعية روايتها.

الإقرار أو منح الشرعية لتقسيم خارطة جغرافيا الوطن لا بد وأن يقابله انقسام في جغرافية الذات الفلسطينية المنتجة للأدب. وهذا ربما يفسر ما قاله سميح القاسم في إحدى الندوات الأدبية عقب التوقيع على أوسلو بأنه شعر بأن الشاعر في نفسه قد توقف عن الشعر لأنه لم يقدر أن يواجه انهيار جماليات شعره التي حددها آنذاك في "فلسطين الحلم" و منظمة التحرير الفلسطينية كتجسيد لذلك الحلم والاشتراكية"، وهو أيضًا ما قد يفسر، ولو جزئيًا، ما كان يقوم به شاعر كبير بحجم محمود درويش من حذف وإضافة وتغيير في منطوقه الشعري لدى إعادة نشر بعض قصائده القديمة. يجب أن أستدرك هنا أن محمود درويش كان الأسبق في تجاوز روح مرحلة أوسلو وذلك بتجاوز حدود وافتراضات الذات الوطنية الضيقة إلى الذات الإنسانية الأشمل.

وما عمق أزمة الوعي الإبداعي لدى الكاتب الفلسطيني ( إذا جاز لنا تسميتها كذلك) هو قيام السلطة الفلسطينية كنتيجة طبيعية لاتفاقات أوسلو. وكما قال الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر في دراسة بعنوان "الثقافة والسياسة والسلطة" (الأيام 23/11/2010) : إن "نشوء حقل السلطة في فلسطين لم يترافق مع نجاح الحركة القومية في تحقيق الاستقلال، بل تحقق بطريقة تتناقض مع مكونات السردية البطولية، التي أنفق المثقفون الفلسطينيون أعمارهم في سردها وتوليفها، والتي حصلوا بفضلها على قدر كبير من رأس المال الرمزي، وعلى أرباح معنوية ومادية كثيرة لا تنسجم في حالات بعينها مع منجزهم الثقافي الخاص"• وقد نشأ عن هذا الوضع "معضلة ثلاثية الأضلاع: أخلاقية وسياسية وثقافية. أخلاقية بمعنى أن الانتقال من سردية إلى أخرى يستدعي قدرًا من التكيف باهظ التكاليف، وسياسية بمعنى أن التماهي بين السياسي والثقافي لم يعد ممكنًا بحكم التناقض بين السردية البطولية من جهة، والواقع الجديد الذي أفرزه أوسلو من جهة أخرى، وثقافية بمعنى أن إنشاء السلطة يستدعي تقسيمًا جديدًا للعمل وربما إعادة صياغة دور الكاتب أو المثقف الفلسطيني في المرحلة الجديدة. (المصدر نفسه)

في ضوء المعطيات السابقة، أستطيع أن أعقد مقارنة بين التحولات في المشهد الأدبي الفلسطيني بعد أوسلو وبين المشهد الأدبي في الانتقال إلى الحداثة الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي من حيث التشكك في القيم المجتمعية السائدة ، والتفاؤلية المفرطة بانتصار قوى الخير في الإنسان والرضا عن الذات وخيبة أمل شديدة بالقيم الأخلاقية وأنظمة الحكم التي قادت إلى أكبر حربين مدمرتين في تاريخ البشرية، وكان لا بد للكاتب الحداثي إلا أن يبحث عن جماليات جديدة من حيث الموضوع والتجريب الفني مع تركيز أكثر على تحليل الذات ومكامن ضعفها، وترافق كل ذلك مع نزوع قوي بالعودة إلى ما هو أصيل وثابت في السردية الإنسانية للتعامل مع السائد والاحتجاج عليه.

ومع وجود فوارق تفصيلية هامة بين المشهدين في كل العناصر الوارد ذكرها، إلا أن من أهم ما يميز المشهد الادبي الفلسطيني في الحالة الفلسطينية بعد أوسلو هو التشبث القوي بما هو ثابت واستراتيجي في السردية التاريخية الفلسطينية ولو أن هذا التشبث يوقع الكاتب الفلسطيني أحيانًا في تناقض واضح مع الذات تحت يافطة ضرورة التكيف مع السائد ، وفي أحيان أخرى يوقعه بين براثن التهميش والعزلة والاغتراب، ومن المثير أن نلاحظ هنا وعلى سبيل المثال لا الحصر، في حقل الرواية الفلسطينية أن أغلب الروايات التي نشرت في السنوات الأخيرة لا تتخذ من زمن أوسلو موضوعًا لها إلا بالقدر الذي يمكن أن يستشف من خلال المقارنة والمفارقة بين ما اكتنزته ذاكرتنا التاريخية الجمعية وبين موروث أوسلو. وقد عبر الشاعر الفلسطيني #علي_الخليلي عن هذه الفكرة بوضوح في ديوانه الأخير ((شرفات الكلام) حينما قال وكأنه يعكس عذابات الروح (روح الشاعر) ما بعد أوسلو:

كأنك المجاز حقيقتك المبهرة

والأماني سقف لروحك أو شجرة

تصطفيك من الميتين

وقد سكت العارفون عن المعرفة

وطوت دارسات الديار حديقتها المزهرة

…….

لك الحلم المستحيل

ما شئت من زمن الانتظار

ولكن شيئًا هنا تحت عينيك يلهو ويلعب

حينًا

وينسى ويكذب

حينًا

ولا هو طفل فترضى

ولا هو ذئب فتخشى

ولا هو إلاّك أنت

فماذا ربحت

وماذا خسرت

سوى قصة قلت ما قلت فيها

ومتّ

 

 

ألقيت هذه الشهادة في افتتاح مؤتمر "الأدب الفلسطيني ما بعد أوسلو" الذي عقد في جامعة الخليل في 8/12/2010.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.