التعليم العالي والذكاء الاصطناعي؛ وعود كبرى ومحاذير !

في حادثة ينظر لها كأحد التجليات المبكرة لعالم "ميتافيرس" الموعود، تناقلت الكثير من المواقع العلمية قبل أسابيع خبراً من جامعة ستانفورد حول أول مساق يتم تنفيذه باستخدام تقنية الواقع الافتراضي (Virtual Reality) بشكل كامل، حيث تمكن الطلبة من الالتحاق بالمساق وهم جالسون في البيت ويرتدون على رؤوسهم أجهزة الواقع الافتراضي]1[. وعلى نمط أفلام الخيال العلمي، فقد تطلب الالتحاق بذلك المساق أن يقوم كل طالب بابتكار شخصيته الافتراضية "أفاتار-Avatar"، وأن يلتحق من خلالها بالمحاضرات، مع أفاتارات الآخرين، وأن يستخدمها في القيام بالتجوال والتعلم في عالم افتراضي تمت برمجته للمساق خصيصاً. تخيل مثلاً أن يقوم طلبة الفيزياء الفلكية بتعلم أسرار الفضاء الخارجي من خلال إرسال شخصياتهم الافتراضية في جولة تفحصية عبر الكواكب التي تم تصميم نماذج محاكاة شبيهة بها، أو أن ينخرط طلبة التاريخ في تعلم تفاصيله من خلال تجوال أفاتار كل منهم في عوالم الماضي التي تم إعادة الروح إليها من خلال البرمجة والمحاكاة ثلاثية الابعاد، أو أن يقوم طالب الكيمياء، من خلال أفاتاره الشخصي، بمختلف أنواع التجارب الكيميائية في مختبرات افتراضية، لا يخشى فيها ضرراً  أو تكلفة !

كما عايش العالم خلال العامين الماضيين، فإن إحدى النتائج الفارقة لجائحة كوفيد-19 تمثلت في إزاحة التعلم الالكتروني جانباً للعديد من معالم البنى التقليدية للتعليم العالي، وبشكل إجباري. ولكن ذلك لم يكن قفزة طارئة فرضتها ظروف التباعد الاستثنائية، بقدر كونه تسارعاً في وتيرة استخدام هذا النمط من التعلم ضمن سياق الثورة الرقمية والتوجهات البيداغوجية الحديثة التي أخذت تتكرس خلال سنوات سابقة للجائحة. وفي هذا المعرض ينبغي القول بأن استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي يتجاوز التعلم الالكتروني، حيث يُعنى بتداخلات واسعة النطاق مع التعليم العالي على الأصعدة الإدارية والمالية والتعليمية.

لا يبدو أن هناك فهماً موحداً للذكاء الاصطناعي. ولكن، بوجه عام، ربما يتسنى القول بأن الذكاء الاصطناعي يسعى لتطوير آلات وبرمجيات يمكنها محاكاة مهام العقل والمشاعر البشرية، بكفاءة عالية وبدون أخطاء. وفي هذا المضمار فإن الذكاء الاصطناعي يمتلك مواصفات فارقة تشمل القدرة على التعلم الذاتي، وجمع وتحليل بيانات ضخمة وإيجاد علاقات فيما بينها، ومن ثم اتخاذ قرارات بناءً على المعطيات المتحصلة من ذلك ]2[. وهذا يفتح الباب واسعاً لتغييرات جذرية في التعليم العالي، بحيث يمكن أن تمتد مساهمات الذكاء الاصطناعي من قبول الطلبة وإرشادهم، مروراً ببيداغوجيا التعليم وطرق تقييم الأداء، وإدارة العملية الأكاديمية وضمان جودتها، وحتى مطابقة نوعية الخريج المطلوب مع فرص العمل المتوفرة.

فيما يلي استعراض موجز  لبعض النطاقات التي تستخدم فيها البيانات الكبيرة والذكاء الاصطناعي، والآخذة في الاتساع خلال السنوات الأخيرة.

الترويج للجامعات: تتعامل الجامعات حديثاً مع جيل منغمس رقمياً، ومع تطور القدرات الفنية والبشرية على التعامل مع البيانات الكبيرة، أصبحت الجامعات تحرص، من خلال آليات متعددة للدعاية والاعلان، على إبراز مكامن قوتها وتميزها سعياً لاجتذاب الطلبة، والوصول إليهم أينما كانوا. وضمن هذا السياق فقد باتت تتوسع الجامعات في تحضير المواد الاعلانية الرقمية المرئية، وبرزت الاستفادة من التصنيفات الجامعية في تقييم أداء الجامعات حول العالم تبعاً لمعايير متعددة، تختص بشكل عام بالتعليم والبحث والتوجهات نحو الطاقة المتجددة والتشبيك مع المجتمع والصناعة. كذلك فقد أصبح هناك أيضاً تصنيفات على مستوى التخصصات وعلى مستوى الأساتذة والباحثين، هدفها المعلن مساعدة الطلبة في اختيار ما يناسبهم، ومساعدة الجامعات على اجتذاب الكفاءات العلمية. وعلى الرغم من الكثير من الانتقادات التي توجه في هذا المجال، والتوظيف الشكلي للتصنيفات من طرف بعض الجامعات بما قد يطال رصانة الأكاديميا، إلا أن ذلك لا يبدو حاسماً في الحد من انتشار التصنيفات، التي توليها معظم الجامعات أهمية خاصة، بحيث أصبح التوجه الغالب هو الاستفادة المتزايدة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي في التعامل مع جوانب "القصور" في تلك التصنيفات، التي نشرت "السيفيير" مؤخراً دليلاً إرشادياً مفيداً حولها ]3[.

دعم وإرشاد الطلبة:  خلال السنوات الأخيرة تنوعت التطبيقات والبرمجيات الذكية، التي يمكن أن تقوم ببعضها شركات متخصصة، وتلجئ إليها كبريات الجامعات من أجل جمع بيانات حول طلبتها، تختص بأدائهم التعليمي والحياتي داخل الحرم الجامعي، بهدف تكوين صورة شمولية عن أوضاعهم الأكاديمية وغير الأكاديمية. وإلى جانب ما يثيره الموضوع من نقاشات حول الأخلاقيات واعتبارات الخصوصية إلا أن هناك تطبيقاً واسعاً له في مجالات متعددة. من بين تلك المجالات يأتي توجيه الطلبة نحو تخصصات تتناسب مع قدراتهم تبعاً لنتائجهم التعليمية في مراحل مبكرة، وتقديم مساعدات أو قروض مالية للمحتاجين منهم في مرحلة معينة من تعليمهم من أجل تخفيف معدلات تسرب الطلبة، وتحديد وتيرة زيارة الطلبة للمكتبات وللمنشآت الرياضية ومدى الاستفادة من سائر الخدمات داخل الحرم الجامعي. يجري التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال تحت مسمى متابعة أوضاع الطلبة وإرشادهم نحو إتمام دراستهم بما يتناسب مع قدراتهم، وهو في نفس الوقت يطرح مجموعة من الأسئلة الصعبة حول ملكية المعلومات التي يتم جمعها، وأخلاقيات التعامل معها، ومآلاتها النهائية ]4[.

تحولات العملية التعليمية وطريقة إدارتها: خلال العقدين الماضيين ساهمت التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، ولا تزال، في إجراء تحولات متعددة للجوانب الإدارية والتربوية والاجرائية للعملية التعليمية. من الناحية الإدارية، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم في عملية قبول الطلبة ومتابعة أوضاعهم من أكاديمية وغيرها داخل الجامعة، ولقد شهد عالم الأكاديميا استخدام مساعدين آليين (روبوتات) في مساعدة الطلبة والاجابة على استفساراتهم الروتينية.

ومن الناحية التربوية والفنية فإن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي يمكنها المساهمة في جهود متواصلة تهدف لتطوير المحتوى التعليمي وأدوار المعلم والمتعلم، بما يمكن أن يتأتى معه تركيز أوسع على اكساب المتعلم مهارات النقد والتحليل والبحث، وبما يساهم في انحسار الأساليب التلقينية. كذلك فهناك آفاق لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص الفروق الفردية بين المتعلمين وتحديد ما يتناسب مع قدراتهم ومواهبهم بشكل أفضل، وتطوير طرق التقييم تبعاً لذلك. في ذات السياق فإن التعليم العالي يشهد تزايداً في  أنشطة تطوير محتوى تعليمي وتربوي يتوائم مع فلسفة ونشاطات التعلم الذاتي، بما يتيح توسيع شريحة الطلبة الجامعيين، من خلال توفير فرص مرنة للتعليم وموضعته للعاملين من الطلبة ضمن أنشطة الحياة اليومية. يأتي هذا منسجماً مع ما بات يعرف بمبادرة "التعليم-4.0، أو Education-4.0"، والتي تتلخص في إعادة تصميم التعليم ليتماشى مع الثورة الصناعية الرابعة، التي ترتكز على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الذكية.

في كتابه الذي صدر بعنوان "الحياة 3.0: أن تكون إنسانًا في عصر الذكاء الاصطناعي"، يستعرض عالم الكونيات ماكس تيجمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سيناريوهات مختلفة لاحتمالية تطوير الذكاء الاصطناعي في المستقبل، ويرى أن البشرية لم تصل بعد إلى مستوى الذكاء الاصطناعي الشمولي، بحيث تتطابق إمكانيات المعالجات الآلية مع القدرات المعرفية للبشر ]5[. ويقدم الكاتب بعض السيناريوهات الصادمة حول مستقبل البشرية في ظل تحكم الذكاء الاصطناعي، ويمضي محذراً من " التوحش الرقمي"، الذي قد يكون أحد نتائجه المحتملة قيام الذكاء الاصطناعي بعزل البشر في حظائر ومحميّات طبيعية، ليس للحفاظ عليهم، ولكن للأسباب نفسها التي تجعل البشر اليوم يحافظون على حيوانات الباندا المهددة بالانقراض في الحظائر، أي لغرض التسلية والشعور بالسعادة ]6[.

ختاماً، على الرغم من الحماس أو التشاؤم الذي قد يترافق مع الحديث عن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات الحياة المختلفة، إلا أن استجابة الأكاديميا للتطورات التقنية، على وجه خاص، عادة ما تكون متأنية، وأحياناً متلكئة، وذلك نظراً لكون منظومة التعليم تنطوي على عمليات معقدة لها أبعاد تربوية ونفسية، يقع الانسان ككائن اجتماعي في مركزها. وبالتالي، وفي عصر بات فيه جمع المعلومات وتداولها يتم بوتيرة مذهلة، تعاني في أحيان كثيرة من ضعف ضوابط الأخلاقيات، فإنه من الضروري بلورة تشبيك وتآزر بين التكنولوجيا الرقمية المتنامية وبين الفلسفة التربوية والتعليمية، مع عدم إغفال استخدام العلوم الاجتماعية والسلوكية والقانونية، في دراسة تداعيات ذلك على العلاقات والخبرات الإنسانية.

 

روابط المصادر:

  1.  Stanford course allows students to learn about virtual reality while fully immersed in VR environments
  2. مقالة علمية - دور الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة التعليم العالي
  3. University rankings, A closer look for research leaders
  4. Artificial Intelligence in Higher Education: Applications, Promise and Perils, and Ethical Questions
  5. مقالة - الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي: الفرص والاعتبارات
  6. مقالة - خطر الذكاء الاصطناعي.. هل يمكن أن تتفوق الروبوتات على الإنسان؟

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.