التعليم الجامعي وبرمجيات المحادثة الذكية؛ آفاق وتحديات !

 

أخبرهم بما ستقوله، ثم قله، ثم أخبرهم مجدداً بما قلته. هذه المقولة تمثل إحدى النصائح الشائعة حول أهمية التكرار وطريقة عرض المعلومات في ترسيخ الأفكار التعليمية لدى الطلبة. وعندما يكون المعلم هو مصدر المعلومة الأساسي، فإن حدود قدراته وصبره على التكرار هي حدود الاستفادة من هذه النصيحة، أما مع الذكاء الاصطناعي وبرمجياته، فيبدو أن هناك من الصبر على التكرار، والصور والمشاهد والمعلومات، ما يعلم الكثير من الشطّار، إن أحسن الاستخدام.

يتوالى تدفق التقنيات والابتكارات الرقمية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي للعملية التعليمية، لينقلها بالتالي نحو آفاق جديدة سمتها الأساسية سهولة الوصول لكم كبير من المعلومات وتبادلها. وفيما الحديث يدور عن إمكانيات ومستجدات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، وآفاق وتأثير التغلغل المتنامي لذلك في عالم الأكاديميا، ظهرت إلى السطح بشكل مبهر  روبوتات المحادثة المتقدمة، التي تستخدم أساليب معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي (أهمها "ChatGPT")، والذي اتسع استخدامه في وقت قياسي، بحيث وصل عدد المستخدمين إلى مئة مليون في غضون شهرين من اطلاقه، كل لأغراضه الخاصة، ويا لتعدد تلك الأغراض، وفي ذات الوقت يا لفقر ضوابط التعامل مع هذا الواقع الثوري المستجد!

بالترافق مع العديد من المحاذير التي يتم تداولها حول استخدام هذه التقنية الوليدة، لدرجة دفعت بعض المؤسسات التعليمية وحتى بعض الحكومات لمنع استخدام روبوتات المحادثة الذكية، فإن هناك وجهة نظر تدافع عن حرية بل وضرورة استخدام روبوتات المحادثة، لا بل ويتم التندر من خلال استعادة ذكريات سابقة لمظاهرات حدثت في ثمانينيات القرن الماضي عند ظهور الآلات الحاسبة للتحذير من خطرها وللمطالبة بمنع استخدامها، معتبرة أن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي وجدت لتبقى ولتزدهر. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن دور التكنولوجيا الرقمية آخذ في الاتساع بشكل لا يقبل التراجع، فإنه من الضروري التركيز على الآثار الاجتماعية والتربوية والنفسية، وكل ما يقع ضمن دائرة التأثير التقني، من أجل ترشيد وأنسنة الاستخدام، ما أمكن.

كيف يمكن للطلبة الاستفادة من روبوتات المحادثة؟

من ناحية المبدأ، التكنولوجيا المعلوماتية المتقدمة من شأنها المساهمة في تحرير القدرات الادراكية والمعرفية للطالب وتوجيهها نحو النشاطات الإبداعية بدل النشاطات الروتينية. وهذا يتطلب بالتالي تركيز الجهود التعليمية نحو مساعدة الطلبة على تقوية المهارات التي يحتاجون إليها للتعلم الذاتي والمستمر، مما يقود لتغييرات هامة ليس فقط في طرق تعلم الطلبة، وإنما أيضاً في طرق القياس والتقويم.

تشير المصادر ذات الصلة أن الطلبة حول العالم كانوا سباقين لاستخدام برمجيات المحادثة الذكية، بالذات "ChatGPT"، وذلك لأغراض تعليمية وبحثية متعددة، من بينها الحصول على إجابات لأسئلتهم بسرعة كبيرة وعلى مدار الساعة، وكتابة النصوص والمراجعات والمقالات، والأكواد البرمجية، والترجمة من لغة لأخرى، واختصار نص طويل للحصول على نص أقصر، وتعلم لغات جديدة بما يتضمن التحقق من القواعد والمفردات في مقالات يكتبها الطالب باللغات المختلفة. هذا بالاضافة إلى إمكانية استخدام البرنامج المذكور كمعلم افتراضي، فعند سؤاله عن إمكانية العمل كمدرس افتراضي للطالب، جاء رد "Chatgpt" كما يلي: "نعم، بالطبع يمكنني العمل كمدرس افتراضي للطالب. كمدرس افتراضي، يمكنني توفير مجموعة متنوعة من الخدمات التعليمية عبر الإنترنت، بما في ذلك الدروس الفردية والدروس الجماعية والدروس المسجلة، بالإضافة إلى المناقشات والتدريبات والتقييمات. يمكنني استخدام أحدث التقنيات والأدوات التعليمية الافتراضية لتحسين تجربة التعلم للطالب، ويمكن للطالب التفاعل معي عبر الإنترنت، مما يمنحني القدرة على توفير دعم فوري للطالب. في النهاية، الهدف هو توفير تجربة تعليمية عالية الجودة تتيح للطالب تحقيق أهدافه التعليمية والأكاديمية."

ما هو موقف الجامعات تجاه ذلك؟ ما هي أهم المحاذير؟

الانتشار السريع والاستخدام المكثف لبرمجيات المحادثة الذكية حدى بالكثير من الجامعات أن تطلب من هيئاتها التعليمية القيام بتطوير مناهج ووصف المساقات، وتطوير التوقعات من الطلبة بما يتناسب مع المستجدات التقنية والتعليمية المتسارعة، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف وتيرة ذلك من مساق لآخر ومن تخصص لآخر. هذا طبعاً بالتزامن مع المحاذرة من سوء الاستخدام، ومن السلبيات والمخاطر التي يمكن تلخيص أهمها في جانبين؛ الأول يتمثل في الانتحال وخرق حقوق التأليف والنشر من جهة، مما يتطلب الاستعانة بتقنيات التحقق من أصالة النصوص من أجل الكشف عن مواد أنتجها الذكاء الاصطناعي، بخلاف مقتضيات الأمانة العلمية. أما الثاني فيتعلق بإمكانية قيام الذكاء الاصطناعي بتزويد الطلبة بمعلومات خاطئة أو متحيزة أو مضللة. فمن طبيعة الأشياء أن تقود المدخلات السيئة إلى مخرجات سيئة، ومع قدرات التعلم الذاتي للذكاء الاصطناعي، والكم الهائل من المحتوى غير المدقق والرديء المنتشر عبر الانترنت هناك تخوفات من أن تتم إعادة انتاج التحيزات الفكرية والثقافية والسياسية والعنصرية والجندرية بشكل أسرع انتشاراً وأعمق تأثيراً. والتعامل مع هذا التحدي يتطلب التوعية وضرورة تنمية القدرات النقدية والمهارات البحثية والتفكير المستقل لدى الطلبة. بالإضافة لما سلف هناك تحديات أخرى تتعلق بخصوصية المعلومات، والافتقار لتعليمات وقوانين ناظمة للاستخدام المشروع، وأحياناً غياب العدالة في الوصول للمصادر المعلوماتية، وغير ذلك، مما يتطلب التفكير والتعلم من التجارب، سعياً لتعظيم فائدة الاستخدام والحد من تبعاته السلبية.

ما المطلوب من أعضاء الهيئات التعليمية؟

في ضوء ما ذُكر، فإن دور الهيئة التعليمية وانخراطها في مواجهة التحديات وتعظيم الاستفادة من الامكانيات التي توفرها التكنولوجيا المذكورة يكتسب أهمية محورية. وهذا لا يمكن أن يتأتى من دون الانخراط النشط، بمعنى إنشاء حسابات على هذه البرمجيات والتعرف على إمكانياتها وحدود قدراتها، وتوجيه الطلبة نحو ما يمكن أن يفيد في العملية التعليمية والبحثية، وخصوصاً إعادة تصميم الواجبات البيتية والامتحانات وطرق التقييم وتنويعها، بحيث يُطلب من المتعلمين العمل ضمن مجموعات، وتقديم عروض أو إجابات شفهية بدل الوظائف البيتية المكتوبة. كما أنه من الضروري متابعة تلك الواجبات  أولاً بأول، وتزويد الطلبة بتغذية راجعة تتضمن تحديد أي استخدام سلبي للذكاء الاصطناعي. ضمن هذا السياق من الضروري التعرف على برمجيات كشف استخدام الذكاء الاصطناعي في صياغة النصوص وحل المسائل وما شابه، والتأكد من تعريف الطلبة بأنواع الاقتباس السليم والابتعاد عن الممارسات التي تمس النزاهة الأكاديمية، والتي لخصها برنامج مطابقة النصوص المعروف "turnitin" ضمن طيف من عدة أنواع متدرجة الخطورة، منها سرقة أعمال الآخرين وتبنيها، واحتواء النص على جزء منسوخ من مصدر آخر مع تبديل بعض العبارات والكلمات المفتاحية، والانتحال الذاتي، ونسخ عبارات قصيرة كما هي من مصادر متعددة ودمجها معاً، و توثيق النص بشكل غير دقيق، وغير ذلك.

ختاماً، من الضروري التنويه أن هناك محاولات ومبادرات لبلورة مدونة لأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، وضمن هذه الجهود فقد قامت منظمة "يونسكو" حديثاً بإعداد دليل ارشادي مبسط حول استخدام الذكاء الاصطناعي وبرنامج "Chatgpt". بالتالي من اللازم متابعة المصادر الموثوقة والعمل على الاستفادة من الخبرات المتراكمة محلياً وخارجياً لهذا الغرض.

 

مراجع وروابط مفيدة

 

  1. موقع :“Chatgpt” (https://openai.com/blog/chatgpt)
  2. طيف السرقات العلمية من إعداد "turnitin":
  3. دليل من إعداد منظمة يونسكو حول استخدام " Chatgpt":

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.