التحديات المائية في قطاع غزة: مأساة المياه والصرف الصحي في ظل الحرب المسعورة

 

واجه قطاع غزة تحدياً هائلاً في توفير المياه الصالحة للشرب منذ فترة طويلة، إذ تشهد جودة مصادر المياه في الحوض الساحلي تدهوراً متدرجاً، ولمواجهة هذا التحدي، تم إنشاء عدة محطات لتحلية المياه ذات حجم صغير لسد هذا النقص. ويحتاج سكان القطاع إلى نحو 250,000 متر مكعب من المياه يومياً لاستعمالات متعددة كالشرب والنظافة.

في بداية الحرب الحالية في تشرين الأول/أكتوبر 2023، قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بقطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود عن القطاع، وهو ما يُعد عقاباً جماعياً يتنافى مع الأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان المعترف بها دولياً،[1]  وأدى هذا إلى توقف تشغيل معظم مرافق المياه في غزة، ولحقه نقص حاد في المياه النقية المتوفرة للشرب. كما نفد الوقود الاحتياطي المستخدَم في محطات التحلية والضخ في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبالتالي صارت مياه الشرب غير متوفرة بصورة كاملة، الأمر الذي ينذر بحدوث كارثة في المستقبل القريب.

وعلى سبيل المثال؛ أشار تقرير صادر في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى أن ثمة نقصاً كبيراً في المياه الصالحة للشرب والاستخدامات الأُخرى في القطاع، إذ وصلت شاحنتان فقط من مجموع 20 شاحنة إلى غزة عبر معبر رفح تحملان 44,000 وحدة من المياه المعبأة، وهو ما يكفي لتلبية حاجات 22,000 شخص ليوم واحد فقط، ويمثل هذا نسبة 1% فقط من إجمالي السكان. وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن أنظمة الصرف الصحي في القطاع تجاوزت طاقتها الاستيعابية، وأن تنقية المياه لن تستمر من دون وقود. هذا وأكدت اللجنة الحاجة الملحة إلى توفير مياه صالحة للشرب لسكان القطاع، والذين يعانون جرّاء نقص حاد في المياه النقية والعجز في تحليتها.[2] 

كذلك، وفي ظل الحرب المستمرة في قطاع غزة، فقد شهدت آبار جمع المياه الاحتياطية، التي تعتمد عليها الأبراج، تدميراً كبيراً، الأمر الذي أدى إلى تفاقم مأساة العطش وتزايُد حالات الوفاة، وهذا الوضع المأسوي يساهم في انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة، إذ ظهرت حالات كثيرة من الإسهال والتقيؤ والالتهابات الفيروسية في الجهاز الهضمي. والأمراض المنقولة بالماء ليست هي الوحيدة، فقد ظهرت مشكلات صحية أُخرى؛ كمشكلات الجلد، والأذن، والجهاز التنفسي، والعين، وتزايدت أعداد المصابين بها بصورة ملحوظة. وقد حذرت منظمة الصحة العالمية من خطر متزايد لانتشار الأمراض في ظل القصف الجوي، وصعوبة الوصول إلى المياه النظيفة، والازدحام في الملاجئ.[3]   

لقد تعرض سكان غزة لنقص حاد في المياه اللازمة للنظافة الشخصية ومرافق الصرف الصحي، وهو ما أدى إلى انتشار الأمراض الجلدية والعينية والالتهابات التي ينقلها القمل والجرب، وهذا الوضع الكارثي يعزز انتشار الأمراض المعدية، ويعرض السكان لمزيد من المخاطر الصحية في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.[4] 

وتستهدف إسرائيل البنى التحتية المائية والصرف الصحي في كل تصعيد، إذ شهدت حرب 2021 استهداف 18 مضخة لصرف المياه؛ 6 منها دُمرت تماماً، وهو ما أدى إلى تسرُّب مياه الصرف الصحي إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، كما تضرر أيضاً 18,734 متراً من شبكة الصرف الصحي، الأمر الذي أدى إلى توقف محطات تنقية المياه العادمة. إن قطع إمدادات الوقود والكهرباء يعني عجزاً عن تشغيل مضخات المياه ومحطات التنقية وصرف المياه العادمة. لم تقتصر تأثيرات هذا التدمير على البنية التحتية فحسب، بل أيضاً تجاوزتها لتشمل توقف المانحين عن الاستثمار في مشاريع البنية التحتية بسبب استهداف إسرائيل المستمر، في محاولة منها للضغط على سكان غزة وفرض سياسات السيطرة الخاصة بها. ومع القيود الحدودية المفروضة ومنع البضائع من دخول القطاع من جانب إسرائيل ومصر، يصعب كثيراً إصلاح ما تم تدميره من مرافق. وتُعتبر المواد الفنية الأساسية لتحسين البنية التحتية، كالمضخات والمواد الكيميائية لتنقية المياه، ضمن العناصر الممنوعة من الاستيراد منذ سنوات قبل الحرب الأخيرة (2023)، وهو ما يجعل من الصعب تأمينها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تعرضت إمدادات الطاقة للتدمير الممنهج عن طريق القصف المتكرر لجميع مرافق الحياة في غزة، الأمر الذي زاد معاناة السكان، وأدى إلى فقدانهم الثقة في استمرارية حياتهم اليومية.
كذلك أدى الانقطاع المستمر للكهرباء إلى توقف المحطات المتبقية لتحلية مياه الشرب، والتي تُعد العمود الفقري لإمدادات مياه الشرب في القطاع، وهذه الأحداث تضاعف التحديات البيئية الخطِرة، متسارعةً مع استمرار الحرب المدمرة، وهو ما يفاقم المأساة الصحية والبيئية المستفحلة فعلاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن انقطاع الكهرباء يحد من عمل مضخات الآبار الجوفية المتبقية، فيعيق وصول المياه إلى المنازل والمستشفيات والمرافق الضرورية الأُخرى. ونتيجة ذلك، فإن خدمات الصرف الصحي تتدهور، وهذا يزيد من انتشار الأمراض بين المواطنين، كالإسهال، والكوليرا، والتهاب الكبد أ، والتيفوئيد، وشلل الأطفال. كما أن المخاطر في المرافق الصحية تتزايد، إذ يتعرض كل من الموظفين والمرضى لمخاطر إصابات وأمراض متصاعدة بسبب عدم توفُر الخدمات الصحية والمائية، ويُعد توفير مياه الشرب النقية للاستخدامات المتعددة، سواء للشرب أو إعداد الطعام أو استخدامات المنزل، ضرورة أساسية للمحافظة على حياة الأفراد وصحتهم وسلامتهم من الأمراض. 

قلق المواطنين في قطاع غزة يتجه نحو المياه العادمة وما تحمله من مخاطر

لقد أدى القصف المتواصل والحصار المفروض وانقطاع التيار الكهربائي وندرة الوقود إلى تعطُل جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي في قطاع غزة، حيث توجد ثلاث محطات مركزية لمعالجتها. والواقع الحالي يشهد التخلص من معظم مياه الصرف الصحي - نحو 120,000 متر مكعب يومياً – من دون معالجة، في البحر أو في وادي غزة، بينما يفيض جزء كبير منها في الشوارع والطرقات، وأحياناً داخل المنازل، نتيجة تدمير أنابيب الصرف الصحي وانسدادها، كما أن القصف العشوائي يزيد من تسربها عبر الحفر الامتصاصية، هذا وهناك نحو 30% من سكان القطاع ليست لديهم شبكات صرف صحي، وهو ما يعزز التلوث الكيميائي والبيولوجي لمصادر المياه، وخصوصاً الجوفية. وبحسب تقرير البنك الدولي لسنة 2016، فإن نحو 98% من مياه الحوض الجوفي الساحلي غير صالحة للاستهلاك البشري أو الري الزراعي.[5]  وكل هذا يهدد بكارثة إنسانية وبيئية وصحية في القطاع، وينذر بتدهور جودة المياه، مؤثراً بذلك في النظم البيئية البحرية والمصادر المائية.

 

[1] عمرو الواوي،"كيف تستخدم إسرائيل المياه أداةً للقتل بدلاً من الحياة؟"، الجزيرة، ميدان، 24/10/2023.

[2] "حرب غزة: وضع مياه الشرب والاستخدامات الأخرى في القطاع منخفض للغاية"، بي بي سي  نيوز عربي، 24/10/2023. 

[3] "ناقوس خطر في غزة.. انتشار الأمراض ينذر بـ'كارثة إنسانية‘"، سكاي نيوز عربية، 9/11/2023. 

[4] Ilke Celik, Lina M A Tamimi, Issam A Al-Khatib, Defne S Apul, Management of rainwater harvesting and its impact on the health of people in the Middle East: case study from Yatta town, Palestine, Environmental Monitoring and Assessment, 189(6): 271. DOI 10.1007/s10661-017-5970-y, National Library of Medicine, National Center For Biotechnology Information,16/5/2017.

[5] "الوضع المائي في غزة كارثي"، البنك الدولي، 22/11/2016.

 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.