تحية عربية لجامعة بيرزيت!

المرحومة نبيهة ناصر (1891- 1951) مناضلة فلسطينية قامت بتأسيس مدرسة للبنات في بيرزيت (قلب فلسطين) عام 1924 خدمة للمجتمع الذي كان في أمسِّ الحاجة إلى مؤسسة تعليمية في البلدة تعلِّم الإناث. وقد تطوّرت هذه المدرسة تدريجيا حتى صارت في مطلع الخمسينيات تتولى التدريس الجامعي، ثم أصبحت في منتصف السبعينيات جامعة كاملة الأوصاف في مقدمة الجامعات العربية!

مصطفى جرّار والخدمة المجتمعية

في عام 1938، عُقد بالقاهرة مؤتمر “المرأة العربية وقضية فلسطين” ألقت فيه المعلمة نبيهة ناصر خطاباً ظل في سجل التاريخ جاء فيه على الخصوص: "يجب ألا تقف الصعوبات في وجه اتحاد أمة واحدة كالأمة العربية مرتبطة مع بعضها في اللغة وفي العادات والدين. يجب أن نستغلَّ كنوزنا الطبيعية لمنفعتنا وليس لمنفعة غيرنا. ونُسنّ شرائعنا وأنظمتنا لمصلحتنا وليس لمصلحة الأجنبي. ونعلّم أولادنا كما نريد لا كما يريد الآخرون".

هذا النوع من التعليم الذي طالبت به المعلمة نبيهة ناصر قبل 80 سنة يبدو أنه السائد في جامعة بيرزيت حالياً. فمن بين ما لفت انتباهنا في هذه الجامعة أن كل طالب ينبغي أن يتطوّع بـ 120 ساعة من وقته قبل تخرّجه في سياق الخدمة المجتمعية، كأن يقدّم يد العون للفلاحين في قطف الزيتون ومساعدة كبار السن في منازلهم. وهذا لدعم تواصل الجامعة مع المجتمع خارج الحرم الجامعي.

تحصَّل الأستاذ مصطفى جرّار على شهادة الدكتوراه عام 2005 من جامعة بلجيكية في علم الحاسوب، وهو عضو هيئة تدريس جامعة بيرزيت. وجدّيةُ مصطفى جعلته يفوز عام 2016 بتمويلٍ قدره 50 ألف دولار، من مؤسسة “غوغل” Google مخصص لدعم الأبحاث العلمية في مجال اللسانيات الحاسوبية! وبفضل ذلك الدعم استطاع هذا الباحث توفير عدد ضخم من المعاجم العربية (150 معجم وقاموس) وتجميعها ضمن معجم موحّد!

لقد استكمل هذا العمل الجبار في شهر سبتمبر الماضي في موقع جامعة بيرزيت، ويمكن الآن الولوج إليه بالمجان (عبر الرابط) وهو يقدم مضمون تلك المعاجم إضافة إلى ترجمة المفردات إلى اللغة الأنكليزية ومرادفاتها وشروحها. والواقع أن هذا المبدع قام بتصميم أداة باسم “أنطولوجيا اللغة العربية على شبكة الإنترنت”، والعمل يقدِّم قاموساً شاملا للغة العربية ونظاماً يتيح تصميم برامج جديدة باللغة العربية، بما في ذلك توفير ترجمة آلية أفضل. وقد تطلب إنجازه من الأستاذ مصطفى جرّار 8 سنوات من الجهد المتواصل.

وأوضح صاحب المشروع “أن فكرة إنشاء معجم شامل وموحّد جاءت لسد الفجوة في الموارد المعجمية والدلالية العربية على شبكة الإنترنت، مما أعاق التقدم العلمي والتقني في حوْسبة اللغة العربية، وحدّ من دعم اللغة العربية في عديد التطبيقات حيث لم تتوفر للباحثين والمطوّرين مصادر لغوية مفتوحة يمكنهم استخدامها”.

وأضاف أن هذه البوابة الإلكترونية تتيح لمطوّري البرمجيات الحصول على جميع محتويات قاعدة البيانات. وسيتم “ربط كل مدخلة معجمية بمقابلاتها من مدخلات واردة في مصادر أخرى خارجية”. كما سيتم “ربط المدخلات المعجمية بالأنطولوجيا العربية، مما يعني الربط المفاهيمي بين المعاجم”.

الانطولوجيا العربية

تُعْنى الأنطولوجيا -التي تمثل منهجية جديدة في هندسة المعاجم وصناعة المصطلحات وتعريبها- بشجرة المفاهيم العربية، أي بتصنيف معاني كلماتها وفق ما توصلت إليه العلوم، وليس وفق ما شاع بين الناس. وأكد مصطفى جرّار أن الأنطولوجيا اعتمدت هنا لغة المنطق المحسوب “ما يتيح استخدامها في عديد التطبيقات الذكية… مثل الترجمة الآلية والتحليل الدلالي… والبيانات الضخمة Big data وتوحيد قواعد البيانات، والويب الدلاليّ”.

ويشير المتتبعون إلى أن حوسبة هذا الكمّ من المعاجم كان عملا شاقاً إذ كان لابد من إعادة رقنها ومراجعتها على مدار عدة سنوات. وقد عبّر طاقم جامعة بير زيت عن فخره الكبير بهذا الإنجاز الثقافي في سبيل ترقية لغة الضاد، الذي يضاف إلى إنجازات ريادية أخرى لكلية الهندسة وعلم الحاسوب، منها حوسبة اللهجة الفلسطينية قبل سنوات بهدف مساعدة الحاسوب على فهم وترجمة النصوص العامية. أما رئيس أكاديمية فلسطين للعلوم والتكنولوجيا فأثنى على دور جامعة بير زيت في خدمة اللغة العربية، وأشار إلى أن هذا العمل يؤسس لتطوير عديد التطبيقات الذكية. ومن المعلوم أن مصطفى جرّار يعمل حاليا على ربط جميع مداخلات المعاجم ربطا لغويًا ودلالياً.

والجميل أن إدارة جامعة بيرزيت اعتبرت العمل في مشروع مصطفى جرار نشاطاً مناسباً للخدمة المجتمعية المفروضة على كل طالب، وذلك نظراً للخدمة الجليلة التي يقدمها هذا المشروع للثقافة العربية. وهكذا أصبح بإمكان الطلبة تأدية الخدمة المجتمعية الإلزامية من خلال المشاركة في كتابة محتويات صفحات القواميس العربية في قاعدة بيانات المشروع. وسعيًا إلى إتقان الأداء كان مصطفى جرّار يقوم بتكليف أكثر من طالب بنسخ نفس الصفحة. وشيئا فشيئا اختار أفضل الطلبة ليشاركوه في إنجاز العمل مقابل أجر.

لعله من المفيد أن نشير في هذا السياق إلى أن باحثين من جامعة برينستون Princeton الأمريكية الشهيرة أطلقوا عام 1985 عملا مماثلا لعمل مصطفى جرّار سُمي “ووردنت” WordNet خاصا باللغة الأنكليزية. ويوضح جرّار الفرق بين المشروعين بالقول إن مشروعه يهتم بمعاني الكلمات العربية وفق استخدامها من قبل المتخصصين، فيما يقوم المشروع الأمريكي بتعريف معنى الكلمة حسب المتفق عليه في استخدامات المتحدثين الأصليين بتلك اللغة.

ومهما يكن من أمر، فاللغة العربية لن تتوقف مسيرتها نحو الأفضل ما دام في البلاد العربية نساء من أمثال نبيهة ناصر، ورجال من أمثال مصطفى جرار، ومؤسسات كجامعة بير زيت من وراء القصد. فتحية عربية لهم جميعا… بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية!