كلمة د. حنا ناصر في جلسة مجلس الأمناء بتاريخ 22 تموز 2023

 

هذه آخر جلسة رسمية أترأس فيها جلسة مجلس الأمناء وأرغب بهذه المناسبة أن أشكر أعضاء المجلس الذين منحوني الثقة على مدى أعوام عديدة وتبرعوا بوقتهم الثمين أو بمالهم بسخاء، كما أرحب اليوم بشكل خاص بالدكتورة حنان عشراوي – التي ستستلم رئاسة المجلس رسميا في 15 أب القادم. والدكتورة عشراوي غنية عن التعريف. وشغلت مناصب متعددة في العمل الأكاديمي والسياسي والإعلامي، وقد تألقت فيها جميعا. وأنا متأكد أنها ستتألق أيضا في قيادتها المرتقبة لمجلس أمناء الجامعة.  

كما أود أن أغتنم الفرصة لأودع معكم الدكتور بشارة دوماني، رئيس الجامعة، الذي سيتركنا في نهاية هذا الشهر.  ولا شك أنه ترك بصمات هامة على محاور متعددة في الجامعة ونتمنى له التوفيق في موقعه القديم الجديد في جامعة براون.  

كما أود أن أرحب بالدكتور طلال شهوان رئيسا جديدا للجامعة ابتداء من مطلع الشهر القادم.  وله تجربة غنية فيها، كأستاذ في دائرة الكيمياء وكعميد الدراسات العليا وكنائب لرئيس الجامعة حاليا.  ثقتنا به كبيرة، ونتمنى له التوفيق في مهامه ومسؤولياته الجديدة.

أشعر بارتياح كبير لعملية الانتقال السلسة للمناصب المختلفة في الجامعة وأنا شخصيا أشعر اليوم براحة نفسية عميقة أني عملت في بيرزيت بكل جهد من الستينيات من القرن الماضي مع أن شغفي وعلاقاتي بها قد بدأ منذ نعومة أظفاري - ولهذه قصة أخرى.  ولكن أود هنا أن أشير إلى محطتين هامتين عاصرتهما في تاريخ الجامعة وكنت جزءا منهما: أولا محطة الانتقال من مؤسسة خاصة إلى مؤسسة عامة. والفضل يعود بذلك إلى أربعة، هم والدتي رحمها الله وشقيقتي ريما وسامية وأنا. وقد أخذنا ذلك القرار العائلي في عام 1972 – في نفس السنة التي تم الإعلان فيها عن تطوير المؤسسة إلى جامعة. وكان قرارنا ينبع من إيماننا بأنه لا يمكن لمؤسسة خاصة (أي مؤسسة مملوكة من بضعة أفراد – وبغض النظر إن كانت ربحية أو غير ربحية) أن تنهض بالتعليم العالي وكل المسؤوليات المترتبة على ذلك وهي مؤسسة خاصة.  وتم في حينه تشكيل مجلس أمناء من عدد من الشخصيات الفلسطينية وتمكنا – بعد عناء طويل مع سلطات الاحتلال من تسجيل المجاس قانونيا في العام 1976. أما المحطة الثانية المهمة فهي قيام العائلة بالنقل الفوري لملكية الأراضي الخاصة – التي كانت تمتلكها في منطقة الحرم الجامعي الجديد وذلك إلى مجلس الأمناء. وأعتقد أن هاتين الخطوتين كانتا من اهم الخطوات العملية أو الإجرائية، التي قامت بها العائلة لترسيخ المرحلة الجديدة على أسس قانونية معتمدة.  واليوم، وبعد كل هذه السنوات، تستقيل ريما وسامية وأنا من مجلس الأمناء تكريسا للنهج الذي بدأناه في عام 1972 – أي أن جامعة بيرزيت هي مؤسسة عامة وليست مملوكة من أفراد بل يملكها مجلس أمناء مكون من عدد من أبناء الشعب الفلسطيني والعربي (وربما الدولي في المستقبل). ويتغير ويستبدل أعضاؤه باستمرار ضمن أنظمته الداخلية.  نعم أسس متينة تتيح للجامعة أن تتطور بناء على قرار جماعي مبني على المصلحة العامة والمصلحة العامة فقط.  

وللعلم فإن القرار بتطوير المؤسسة إلى جامعة لم يكن فرديا، بل ساهم به بشكل رئيسي في ذلك الوقت كل من الدكتور جابي برامكي والأستاذ رمزي ريحان – رحمهما الله وكانا من أعمدة المؤسسة في حينه. وكنا نعمل كفريق واحد في السراء والضراء والغريب أن كلا منا كان له أسلوبه الخاص في العمل ولكن نجحنا في تجسيد هذه الأساليب في خطة عمل موحدة. هكذا يكون عمل الفريق دائما!

أعود لعلاقتي بجامعة بيرزيت: يتعجب بعض الأصدقاء أنني أرسل لهم أحيانا رسائل بالبريد الإلكتروني في منتصف الليل أو بعد ذلك بقليل. ولكن بيرزيت بالنسبة لي لم تكن أبدا وظيفة أو مسؤولية عابرة بل كان الشغف فيها مسيطر علي من الألف إلى الياء وأعتقد أن ذلك الشغف ساعدني ومع من كان معي من الفريق في تطوير الكلية منذ العام 1974 وفي جمع تبرعات للجامعة لفتح الكليات المتعددة وبناء ما أسميها – "المرحلة الأولى" من حرم جامعي على أكثر من 800 دونما من الأرض يضم أكثر من أربعين مبنى ومرفق.  

لم أكن خبيرا في جمع التبرعات في بداية عهدي في الجامعة. وأتذكر وعلى سبيل المثال أن الجامعة وعميدها الدكتور رامي عبد الهادي، خططوا في نهاية السبعينيات من القرن الماضي لإنشاء كلية الهندسة. وذهبت لزيارة السيد عمر العقاد- أحد أهم رجال الأعمال الفلسطينيين في السعودية، لأحصل على تبرع منه لإنشاء الكلية.  وكنت مجهزا نفسي لأسرد قصة بيرزيت وتطلعاتها للمستقبل في حوالي 15 دقيقة.  وما أن جلست بقرب السيد عمر على المكتب حتى رأيته يؤقت الساعة على 8 دقائق! علمت فيما بعد حرصه على المواعيد الدقيقة والقصيرة. أصفر وجهي وأخضر وعرفت أنه يترتب على الإسراع في الكلام أو الاختصار. وفي أقل من أربع دقائق سردت قصة بيرزيت – وتخطيت عدة أمور كنت أرغب أن أقولها، وخرجت من اللقاء وأنا لست على علم إن أصبت الهدف أم لا. وما أن وصلت عمان إلا والأخ عمر يهاتفني ويقول لي إنه والعائلة قرروا التبرع بإنشاء كلية الهندسة! لا أدعي أني المسؤول عن هذه البناية أو غيرها، ولكن الفلسطينيين والأشقاء العرب في الخارج رأوا في بيرزيت ما يتطلعون إليه – مؤسسة مبنية على أسس حضارية ومتنورة ووطنية. وبهذا الأسلوب نوعا ما تم تطوير باقي الحرم الجامعي وعدد كبير من البرامج الأكاديمية – وكان أهم ميزات هذا الأسوب هو العمل الجماعي في عملية التخطيط ومتابعة كل التفاصيل في أي مشروع نقدمه للتمويل. وتعلمت شيئا مهما في مقابلتي مع الأخ عمر (رحمه الله) أنك لا تحتاج إلى أكثر من أربعة دقائق لسرد قصة بيرزيت ولكن عليك توفير الوثائق وكل ما يلزم لدعم ما ذكرته في هذه الدقائق الأربعة.   

على مدى السنوات تبين لي أن لجامعة بيرزيت أصدقاء كثيرون، وأكاد لا أصدق ما أسمعه أحيانا من الروايات الملهمة. فعلى سبيل المثال أذكر أن قبل حوالي سنتين زارت الدكتورة طفول أبو هديب فلسطين لأول مرة في حياتها. والدكتورة طفول أستاذة وباحثة في الشأن الفلسطيني والعربي وتقطن بالنرويج.  ووالد طفول فلسطيني وجدتها لأمها لبنانية اسمها لولو غطاس كانت تدرّس في بيرزيت في أوائل الأربعينيات من القرن المنصرم. ورغبت طفول – لدى زيارتها لفلسطين - أن تتعرف على المدرسة التي بقيت جدتها تتحدث عنها كالمكان الذي أمضت فيه أسعد أيام حياتها. زارتني طفول في بيتي في بيرزيت ودمعت عيناها عندما رافقتها لترى غرقة نوم جدتها  – غرفة صغيرة في ما يشار إليه اليوم بالحرم القديم (وهو بيت العائلة الآن). وأطلعتها على دفتر يضم توقيع جدتها على وصل استلام راتبها الذي كان حوالي 9 جنيهات فلسطيني، موقع من عمتي نبيهة ناصر إحدى مؤسستي المدرسة ومديرتها في حينه .  وقد أثارت زيارة طفول ذكريات عديدة لدي وأكدت لي أهمية بيرزيت على مدى العقود ومدى محبة الذين درسوا أو درَّسوا فيها ورسخت إيماني وأملي الكبير بهذه المؤسسة العريقة.

ذكرت اسم عمتي نبيهة عرضا. ولكن يعود لها الفضل في تأسيس مدرسة بيرزيت الوطنية للبنات عام  1294 في منزل والدها – هذه المدرسة التي تطورت على مدى السنوات لتصبح أول جامعة عربية تنشأ في فلسطين.  

تحدثت اليوم عن بيرزيت! ورغبت أن أشارككم تجربتي وشغفي فيها في حوالي أربعة دقائق.  وإذ أترك هذه المؤسسة الفريدة  خلال فترة وجيزة من الآن، فإنني لا أنكر أن في نفسي غصة لفراق الجامعة (وأنا متأكد أن شقيقتي ريما وسامية تشاركانني هذا الشعور) ولكنها غصة حب وعطف و" حنان" وأمل في مستقبل زاهر.