افتتاح مؤتمر "الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديّات وآفاق"

تحت عنوان "الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديّات وآفاق"، انطلق يوم الاثنين 22 تشرين الثاني 2021، في جامعة بيرزيت، فعاليات المؤتمر السنوي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، وينتظم حتى مساء الخميس، بالشراكة مع كلية الفنون والموسيقى والتصميم في الجامعة.

ويرى القائمون على المؤتمر أن "الوضع الثقافي في فلسطين اليوم يعاني أزمة مزدوجة"، الأولى ناجمة عن تبعات جائحة كورونا وانغلاق حيز المشهد الثقافي العام من تقييد العروض المرئية وإغلاق المؤسسات الثقافية وما رافقها من تقلّص في الدعم المادي لهذه النشاطات، وفق د. سليم تماري في كلمة المؤسسة، مشيراً إلى أن الأزمة الثانية سياسية تتعلق بانتكاسة المشروع الوطني في الداخل، وانحسار التضامن العربي مع فلسطين في فترة الحروب الأهلية العربية، وهيمنة مشاريع صفقة القرن وتبعاتها في التطبيع الثقافي بين إسرائيل وبعض الدول العربية، على الرغم من انبعاث الأمل مجدداً من خلال هبّة القدس في أيار الماضي.

وتطرح مؤسسة الدراسات الفلسطينية في مؤتمرها هذا، إشكاليات التعبير الثقافي، للدراسة والنقاش بمشاركة مجموعة من الفنانين والأكاديميين والعاملين في القطاع، مع طرح أسئلة محورية من قبيل: ما هي ملامح المشهد الثقافي الفلسطيني حالياً، وما هي التغيرات التي طرأت عليه مؤخراً؟ وما هي التحديات التي تواجه الإنتاج الثقافي؟ وما هو دور المثقف والمؤسسات الثقافية الفلسطينية في هذه المرحلة؟ وما هي رؤية المشروع الثقافي الفلسطيني المحتملة خلال الوضع الراهن؟

وشدد رئيس جامعة بيرزيت د. بشارة دوماني في كلمته على أهمية دور الثقافة كرافعة للرواية الفلسطينية، لاسيما في ظل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، مشيراً إلى أن المبدع الفلسطيني استطاع ابتداع طرق عدّة للتعبير عن معاناة شعبه، وعن التحديات الداخلية التي يواجهها من وجهة نظره هو لا من وجهة نظر مسقطة عليه، وكذلك عن أحلام هذا الشعب وتطلعاته، كما تطرق، رغم ضيق المساحة الزمنية لحديثه إلى سياسات وأخلاقيات الإنتاج المعرفي، وغيرها من الأمور ذات العلاقة بالعنوان العريض للمؤتمر.

نفق الثقافة ومفهوم التحرر
وفي مداخلة رئيسية له، وتحت عنوان "نفق الثقافة"، تحدث القاص والروائي والناقد والكاتب المسرحي اللبناني إلياس خوري، عن "زمن الانحدار الذي يعيشه العربي بعد انهيار الانتفاضات الشعبية تحت ضربات الثورات المضادة"، ويتبلور "المعنى التراجيدي لذلك في فلسطين المحاصرة بنكبتها المستمرة"، وهنا "تفقد اللغة معانيها، وتتآكل القيم وسط محيط عربيّ من الوحشية والتوغل في الاستبداد والتفكك والتطبيع، فنحن في أزمة شاملة وصلت إلى ذروتها مع مأزق اللغة العربية، كأن زمن الهزيمة أعادنا إلى ما قبل النهضة اللغوية في القرن التاسع عشر"، متسائلاً بأسى: من يحرس الكلمات؟ ومن يدافع عن المعاني؟!

ويرى خوري أن من البديهي أن يكون المثقف هو حارس اللغة ومجدّدها، وأن المعرفة هي أداة مكافحة هذه العتمة الرهيبة، مشيراً إلى أن النموذج الثقافي الفلسطيني كان أنموذجاً، فقد نهض من ركام نكبة العام 1948، عبر التمسك باللغة وتحويل أشكالها الإبداعية من شعر ونثر إلى وطن في المنفى، كمؤشر على نهوض سياسي فلسطيني سوف يتبلور مع المقاومة، بحيث لعب المثقف الفلسطيني والعربي دوراً كبيراً في فتح أبواب المقاومة، وخاصة عبر النصوص الأولى لسميرة عزام وغسان كنفاني وراشد حسين ومحمود درويش وسميح القاسم، والتي بدأت تتبلور اللغة عبرها ومعها صارت السياسة الجديدة، أي سياسة "الثورة ممكنة".

وأكد خوري أنه، وعلى رغم العتمة الأشد في هذه الأيام، فإن الثقافة تستطيع في أزمنة الكوارث أن تحمل المجتمع وتحميه من السقوط، لأنها تستطيع أن تقدم له مرآة تعكس احتمالات التغييب، "غير أن ما عاشته الثقافة العربية في مرحلتي النهضة والحداثة يبدو الآن مهدداً بالانقراض، إن لم نقل إنه في طور الانقراض، فبدلاً من حرية الثورة تبرز ثقافة السلطة، وبدلاً من حلم المستقبل يأتي كابوس الماضي، وبدلاً من المثقف المستقل الذي يواجه السلطة بالحقيقة يسود مثقف الانحناء"، مشدداً على أنه جرى تعميم كوارث النكبة الفلسطينية على الشعوب العربية كاملة، وبأيدٍ عربية هذه المرّة، وفي مرحلة اختلطت فيها الأصوليات بالاستبداد.

وبعد أن وصف خوري الواقع الحالي بـ "الحضيض"، تساءل: ماذا يستطيع المثقف وماذا تستطيع الثقافة أن تفعل في الحضيض؟!، مؤكداً أنه ليس معنياً بالمثقف المرتشي أو الزاحف في بلاطات شيوخ الذهب الأسود، أو الذي يجد في التطبيع وسيلته للتبرؤ من القضية الفلسطينية، أو بمثقف الجيوش أو بمثقف العروش، أو المثقف الذي وجد بالارتزاق من ممالك تدمير الحرية وسيلته للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.. "ما يعنيني اليوم هو المثقف العادل والعضوي والحر والنقدي، وعلى الرغم من الفروق بين هذه النماذج من المثقف والمنظرين لها، إلا أن ما يجمعهم هو الاستقلالية وتأكيد دور المثقف الاجتماعي والسياسي"، مشدداً على أن "الثقافة الفاعلة لا ينتجها سوى هذا النوع من المثقفين والأدباء والفنانين، وأن حالتنا العربية والفلسطينية لا تستطيع حماية المعنى إلا بثقافة حرة ومستقلة، وهي ثقافة تتوفر في كل مكان، فنحن لم يسبق أن احتفلنا بشعراء كمحمود درويش وأدباء كغسان كنفاني وإيميل حبيبي كما نحتفي بهم اليوم، غير أن هذا الاحتفاء صار مجرد لعبة شكلية، وجزءاً من ثقافة الفرجة السائدة التي يشارك فيها الجميع كتعويض عن العجز في مواجهة أسئلة الحاضر".

وفي مداخلة رئيسية ثانية، وتحت عنوان "مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية"، تطرق المؤرخ الفلسطيني ماهر الشريف إلى فكرة محورية مفادها أن المعبّرين عن الثقافة النقدية الفلسطينية ميّزوا ما بين الاستقلال القومي من جهة، والتحرر المجتمعي من جهة ثانية، مؤكدين أن تجارب الاستقلال القومي "لم تمنع انبثاق بدائل قمعية عن الأنظمة الكولونيالية"، مستعيناً بما قاله إدوارد سعيد في كتابه عن الثقافة والإمبريالية، وبما قاله فرانز فانون عن البنيوية، مشدداً على ضرورة تحوّل الوعي القومي إلى الوعي الاجتماعي، قبل أن يُسهب في الحديث انطلاقاً من عديد الأسئلة، من قبيل: ما هي طبيعة الثقافة النقدية الفلسطينية؟ وكيف يتصور منتجها الدور التغييري الذي يمكن أن يضطلع به في المجتمع؟ وما هي المضامين التي ينطوي عليها مفهوم التحرر المجتمعي؟، وطبيعة الحال دور الثقافة والمثقفين في ذلك.