"أرجوحة من عظام": الجحيم الفلسطيني والرواية الأخرى

بدا وليد الشرفا من روايته "وارث الشواهد" مختلفًا عن جيله من الروائيين الفلسطينيين، أكان ذلك في لغة تضيق بما تعاينه وتضيق عليه أم في منظور وطني قاتم، احتضن الرثاء واليأس والغضب المبين. تزايد منظوره قتامًا واحتجاجًا في روايته "ليتني كنت أعمى"، التي جالت في رام الله ولم يعجبها ما رأت. بلغ يأسه الغاضب حدّه الأعلى في روايته الجديدة "أرجوحة من عظام" (الأهلية للنشر، عمّان، 2022) فكسر قواعد السرد المألوف، وترك لغته تمزج الأحياء بالأموات وتمشي صارخة بين نابلس وبيت لحم والدماء الممتدة بينهما. لكأنه عيّن ذاته أمًا فلسطينية ثكلى وروحًا من رماد ولهب وروائيًا يبحث، لاهثًا، عن رواية فلسطينية خالصة، تدرك أن لكل مقام مقال، وأن المقام الفلسطيني المنسوج من شهداء يتناسلون وعيون أطفال أطفأها العنف الصهيوني لا يأتلف مع الرواية، في شكلها التقليدي، وأن من حقه رواية مغايرة تنفذ إلى وجع فلسطيني، لا يشبه غيره. إن كانت تحوّلات المجتمع تُسقط أشكالًا روائية وتقترح أخرى، فإن في غرابة القدر الفلسطيني ما يرمي بجميع الأشكال الروائية المعروفة جانبًا.

لن يتابع قارئ رواية "أرجوحة من عظام" سطورها مرتاحًا. لكأن الروائي تعمّد إشراكه في "وليمة من شوكٍ وعظام"، تخنقه في البداية وتستلّ منه الهواء في النهاية. فعنوان الرواية يوحي بالموت وخشخشة العظام، والإهداء، الذي غاب عنه ما يشير إليه، ينفتح على مفردات: الدم النازف والشهيد والغياب، الجرحى والمبعدين والراحلين "الذين خذل الشفاء فاقديهم". وليست عناوين الرواية الفرعية، وهي ثلاثة وعشرون، مختلفة، تحيل إلى جروح غائرة ونظر خالطه القنوط ولا معقول ملتفٍ بالغموض والأصداء الصامتة: حسرة العاجز، الرصاص يقرع الجرس، خيط الدم وسجادة الرهبان، حوار بين الموت والقتل، قوة القتل رغبة الموت...

رواية لولبية المسار، تهرب من السرد الواضح المستقيم، تتكئ على سرد متقطّع مواده من مقاتلين ينتظرهم الموت وسارد حزين، أخذ موقع الشهيد ـ الحي يتوق إلى لقاء شهداء، عرفهم وزاملهم وحاورهم، سبقوه ويغذّ السير ليلتقي بهم، ويعاتب نفسه لأنه تأخر في الوصول. كما لو كانت حقيقة الفلسطيني، في زمن الاحتلال الصهيوني، من إخلاصه لأفواج الشهداء، وشهادته قدر "مختار" يبرهن بها عن استعداد للشهادة وعن قوة الذاكرة الجريحة وإخلاصه لتاريخ فلسطيني صنعه الدم النازف منذ عقود...

أمران يسوّغان أخطاء الشرفا اللامعة: السياق الذي كتب فيه نصه، حيث فلسطين تحتاج إلى أكثر من معين، وتجريب قلق مشروع، مطلق السراح، يبحث عن رواية تنفذ إلى أعماق الغربة الفلسطينية، ويكون لها شكل ومضمون مختلفان

تقوم الرواية، في سطحها الخارجي، على عناصر مشتقة من أقدار الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال: أب صدمه مآل معارفه، وأوجعت الصدمة قلبه، ودماء نازفة ممتدة من الشوارع العادية إلى بيت لحم وكنيسة المهد، وراهب فلسطيني ومضيّ الحضور يجابه صهيونيًا متغطرسًا، تداخل مآله مع فلسطيني "معتلّ القلب"، يرى وجوده لعنة يردّد: "ماذا عمل الزمن فينا، وماذا عملنا بأنفسنا... ص: 134"، كما لو كانت "اللعنة التي سقطت على الفلسطيني" أثرًا لاحتلال لا يرحم ولفلسطينيين يخطئون في الاتجاهات.

بيد أن الرواية، في علاقاتها الداخلية، تقوم على سديم قوامه الأذرع المبتورة والجثث المتراكمة ومكان مقدس، دنّسه الاحتلال، يستجير "ببقايا مقاتلين" استقروا في القبور أو تنتظرهم القبور، تشهِد على مصائرهم "ذاكرة فلسطينية" خنقتها الوقائع المروّعة وأربكت ما استقر فيها. ذاكرة من شظايا، أو ذاكرة مشظّاه، لا تلحق خطًا داميًا إلا ويصادرها خط آخر، ولا تقع على تفصيل إلا وتستدعيها تفاصيل، ما يعطي الحكاية "المحدودة العناصر" شكل الكابوس الذي لا يُسيطر على أطرافه. ولهذا تتناثر الرواية، التي تقع في أقل من خمسين صفحة، في ثلاثين عنوانًا، تتناثر بدورها في ملاحظات واستدراكات وفواصل.

"كتب الشرفا نصًا من كرامة وتمرّد واحتجاج وسواد وارتباك واسع الدلالات، فليس رغبة الفلسطيني بالموت هي التي تفتح أمامه طريق "الحياة"، إنما الرغبة بالحياة، كما يجب أن تكون، هي التي تجعل الصهيوني يكره الفلسطيني ويخافه"

تلغي الحكاية ـ الكابوس الشخصية الروائية، بالمعنى المألوف، الذي لا يأتلف مع مصير فلسطيني قطع مع المألوف، إذ الموت شخصية مهيمنة دائمة الحضور، والجثة شخصية مديدة الأطراف، تصرخ وتتذكّر وتدخل مع ذاتها في مناجاة طويلة، والشهيد يضمّد جراحه ويمشي على الأرض، والشهادة شخصية فطينة تستنشق الهواء، تعرف الطريق إلى قبرها، ويأخذ القبر بيدها إذا ضلّت الطريق. لكأن في رواية الوجع الفلسطيني، ما يقلب دلالات الرواية ـ المستقيمة الخطّ جميعًا، لا الأصوات فيها لها رنين الأصوات السليمة، ولا الألوان تعترف بألوان غير الفلسطينيين، ولا القاموس اللغوي يرضي الكاتب الذي قصده...

يلقي السارد الأول، الهارب من أبنائه، على الرواية ضوءًا شحيحًا، ينير قراءتها ولا يشرحها، تظلّ مدثّرة، بعلاقاتها المتداخلة، ويظل كتيم الصوت مغلق الصدر. سارد يعيش عالمه ويتخيّله ويجتهد في إلغاء الحدود بين المعيش الذي لا يحتمل والمتخيّل الذي لا يضيف إليه شيئًا. فالوجع الفلسطيني، متوارث غير قابل للكتابة إلا إذا استعارت منه العذاب المستقر في الصدور.

يحمل السارد الذي هو امتداد لما يسرده أبعادًا ثلاثة تنوس بين الإبانة والإبهام: فهو سائر بإرادته إلى استشهاده، يتهيّأ للذهاب إليه ولا يدعه يداهمه في الطريق. له دور مشتق من إرادته ويتبادل مع غيره الأدوار. فالشهداء الفلسطينيون يختلفون في المبتدأ ويتفقون في المنتهى. يلتبس بصديق مضى شهيدًا ويتلبّسه الطريق إلى الشهادة، سارد قلق الذاكرة إلى تخوم الهذيان وفلسطيني معذّب الروح استشهد قبل أن يستشهد. ولهذا يستهل سرده بعنوان: "تبادل الأبعاد" يقول فيه: "حكايات الاغتيال والعظام المتأرجحة، والجروح المخيطة، وحتى الرصاص في الرؤوس والجثث في الأكياس، والجوع أكل الحشائش، كل ذلك حدث فعلًا، لكن الصدمة في قلب الراوي، وتضخّم شريانه الأبهر مزجته مع حلم مرتبك بالشفاء... ص: 7".

يصدر وجع السارد الفلسطيني من أوجاع غيره، وتضيف إليه أسباب وجعه وجعًا جديدًا، وتتكاثر أوجاعه وتمنعه عن السرد الواضح فيمعن في الارتباك، ويغدو الارتباك جزءًا مما يقول. وهو في هذا نقيض للصهيوني: الذي يسرد بلا ارتباك تفاصيل دربه وهو ذاهب إلى "اصطياد الفلسطينيين". ليس استهلال السارد الفلسطيني، الذاهب إلى استشهاده، إلا المنتهى الذي أراده، بحث عنه وحقّقه: "يضيق نفسي، أصعد في الغيم، لا صوت ولا ضوء... ـ السطر الأخير من الرواية المعذِّبة. ص: 150".

إذا كانت اللغة أداة تواصل بين الأحياء، فإن التواصل مع الشهداء الراحلين يستلزم لغة أخرى، ينسجها الصحو والهذيان ودفء "كنيسة المهد"، التي تكدّست فيها جثث الشهداء الفلسطينيين وغدت "مخزنًا" لأجساد استقرت في أكياس سوداء. نقرأ: "أمام رغبة الموت تتعطّل القوة فلا اختباء ولا سلامة... أسمع تكسّر عظامي، الصوت نفسه لتكسّر عظام أصدقائي، لا شيء وخزات هائلة لا تشبه وخزات الشفاء، حرارة الدم وطعمه...."، أو: "أشتمّ في المنام، رائحة أطفالي وزوجتي... أحس أكفًّا ضوئية تشبه الغيم الأبيض تغطيني... وأسمع الليمون الأصفر على سور منزل قريب...".

اقتفى وليد الشرفا بطولة الفلسطيني، الذي لم يُضعْ ذاته، في بطولة اللغة التي يرضى عنها القاموس ولا تُرضي تأوهّات الفلسطيني الجريح. أعلن الشرفا عن روح فلسطينية مريرة، وسعى إلى تحريض وطني بمنظور من قتام وبكاء ولوعة يقول، وليس بلا ارتباك، إن "الطريق إلى الحياة هو طريق الموت الطوعي"، وإن الرغبة في الموت سلاح الذين يرغبون بحياة كريمة. يقول الصهيوني للفلسطيني في الصفحة 148: "ارفع يديك، ألستَ خائفًا"، يرد عليه الفلسطيني: "اتركني، ممَ أخاف؟ من أن أقتلك، ألست خائفًا أنتَ؟ من ماذا؟ من رغبتي في الموت؟ كيف هذا...؟".

كتب الشرفا نصًا من كرامة وتمرّد واحتجاج وسواد وارتباك واسع الدلالات، فليس رغبة الفلسطيني بالموت هي التي تفتح أمامه طريق "الحياة"، إنما الرغبة بالحياة، كما يجب أن تكون، هي التي تجعل الصهيوني يكره الفلسطيني ويخافه. يمكن القول أخيرًا: أراد وليد الشرفا في نصه "أرجوحة من عظام" أن يكون روائيًا مجدّدًا ومثقفًا فلسطينيًا لا يساوم، أخطأ ما أراده، قليلًا، ذلك أن الرواية توحي ولا تملي، تسأل وتترك جوابها طليقًا، فالقول "الآسر" يزيد الضحايا أسرًا، حتى لو قاتلت.

أمران يسوّغان أخطاء الشرفا اللامعة: السياق الذي كتب فيه نصه، حيث فلسطين تحتاج إلى أكثر من معين، وتجريب قلق مشروع، مطلق السراح، يبحث عن رواية تنفذ إلى أعماق الغربة الفلسطينية، ويكون لها شكل ومضمون مختلفان

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.