أهدافنا مرآة أحلامنا الكبيرة

تتفتح عقولنا في هذه الدنيا على كل الاحتمالات القائمة، تُخضعها مُخيلتنا الطفولية الجامحة لدائرة الممكن. وفي طفولتنا تتجاذبنا أحلام كبيرة. أريد أن أكون كذا وكذا، وما أن نكبر وننضج، حتى ندرك أن أعمارنا محدودة، وأنه غالباً، سيكون من الصعب تحقيق كل هذه الأحلام في عمر واحدة!

أحببت العلوم والأدب والشعر منذ طفولتي، ولا أذكر وقتها، ما الذي غلّب حب العلوم الطبيعية على سواها لدي، ولكني أذكر أني كنت أستمتع جداً بأي موضوع علمي، سواء كان برنامجاً في التلفاز، أو حصة في المدرسة، أو قراءة كتاب، أو تجربة علمية قمت بها في البيت من وراء ظهر أمي.

كنت على أعتاب إنهاء مرحلة الثانوية العامة “التوجيهي”، حين فقدت خالتي -رحمها الله- بمرض السرطان. و لا زلت أذكر مقدار العجز الذي أحسست به، حين رأيتها للمرة الأخيرة. قهرني العجز، واعتصرتني مرارة الفقد. من وقتها وأنا أفكر في تجنيد طاقتي ودراستي وعلمي، في الأبحاث الرامية لمعالجة أمراض السرطان.

بالطبع، أخذت مني الفكرة وقتاً حتى تنضج وتصبح هدفاً واضحاً. لا أذكر أن هدفي بهت وهجه لمجرد الإفاقة من ألم الفقد، أو التفكير بانعدام مثل هذا التخصص في جامعاتنا الفلسطينية، أو حتى تواضع أداء المستشفيات المحلية في هذا الحقل. كلُّ ما جال في خاطري حينها "كلٌ ميسر لما خلق له"، وشعوري الذي تجلى وقتها، استمد وجوده من يقين ما، يُخبرني أني خُلقت لمثل هذه الرحلة، وعلى الله التيسير، وما كانت وفاة خالتي، إلا ذاك الوميض الذي دلّني على الطريق.

استثمار الوقت

مع بداية مرحلة الجامعة، فكرت بعالم الأدوية كحاضنة لعلاج السرطان، ولذلك قررت التخصص في مجال الكيمياء في جامعة بيرزيت، كمجال ألتمس فيه معرفة عالم الأدوية، وتراكيبها، وتأثيراتها من جانب، ومعرفة كيمياء الجسم من جانب آخر. وبالرغم من أن الهدف كان حاضراً تماماً في مخيلتي وقتها، غير أنني الآن، و بأثر رجعي، أقول إن خطواتي الغضة باتجاهه، كان يمكن أن تُختصر وقتاً وجهداً. وبالنظر إلى تجربتي في مرحلة الدكتوراه، ولأن موضوع مقالتي هذه يدور حول تحديد “الهدف” كبوصلة في حياتنا، أدركت لو أنني درست علم الأحياء، فذلك بتقديري كان سيختصر علي وقتاً وجهداً عظيمين في بداية مرحلة الدكتوراه.

ومن الأمور التي لو عاد بي الزمن لأخذتها بجدية أكبر، هي مدى استثماري لوقتي في سبيل تحقيق هدفي. بمعنى، أن المرحلة الجامعية الأولى بسنواتها الأربعة، هي فرصة نتزود من خلالها بعدّة معرفية، تؤهلنا للدخول بكفاءة إلى المراحل العلمية والعملية التي تليها. وكان اجتهادي في تلك المرحلة -للأسف- في حدود المساقات الجامعية، ظنا أنني سأبلغ مدارج العلم السامية. ثم علمت أن الاكتفاء بها يصح لطالب علم عادي، ولا يصح لطالب العلم الذي يريد بلوغ مدارج السالكين.

مراجعة الذات

لذلك تخرجت من الجامعة على غير رضىً عن نفسي، وعلى غير هدى من الطريق الذي سأسلكه. لم أشعر مع إنهائي لمرحلة الباكالوريوس، بأني أقترب من هدفي، بل بدا وكأنه يتناءى عني، وأخذت خيوط عزمي تتراخى.

عشت بعد التخرج مرحلة مراجعة ذاتية، أسأل بها نفسي، تلاطمت في رأسي شكوك كثيرة، وظهر بون شاسع بين بُعد الغاية وتواضع الحال، عن حقيقة قدراتي، وكأن ثمة شيء يحتجب عني مني. كانت تلك الفترة بكل التساؤلات والشكوك وجلد الذات، فوضى وحيرة، لكنها لم تطل كثيرا، تمكنت من اجتيازها بتنظيم وترتيب أولوياتي، وإعادة التفكير فيما كان مؤجلاً أو ما كان يسير على غير هدى مني.

حاولت تعويض ما فاتني في مرحلة البكالوريوس خلال مرحلة الماجستير، قرأت واطلعت أكثر، وبحثت بكل جد عن المنح الدراسية في الخارج من جهة، ومختبرات جامعية من جهة أخرى. كان المسير في تلك المرحلة باعث اطمئنان. لا أزعم أني حققت تفوقاً كبيرا، ولكني كنت أحقق نتائج أعلم أني سأتكأ عليها إذا ما تقدمت لمنحة دراسية. مع هذا المسير المتزن، كان لدي يقين أني خُلقت لرحلة ما، وأن الله مُيسرها،  بمجراها ومرساها. عندئذ تلاشى شعوري بالذنب، إذ أنني سعيت بكل طاقتي ووسعي، وعلمت أنني وفيّتُ الشروط الذاتية لإكمال دراستي، وأن تيسير الله ظاهر من حولي، أستأنس به، وأركن إليه.

تعميق المعرفة

مسألة تحديد الهدف، هي مسألة تحتاج لأن تكون واضحة ومحددة. فلا شك أن تطور العلم قد أخذ التخصصات العلمية إلى تخصصات أضيق، ينبغي على الباحثين والعلماء إفراغ جهدهم فيها، بدل تشتيتها في حقول واسعة. مع بدء قراءاتي الخارجية لمرحلة الدكتوراه وما بعدها، وقعت على كمٍّ هائل من المقاربات التفسيرية الساعية لفهم، وليس فقط لمعالجة، أمراض السرطان. فهناك حقول تبحث في التغييرات الجينية، وأخرى في التغييرات ما فوق الجينية، وثالثة تسعى إلى تجنيد جهاز المناعة، لاكتشاف الخلايا السرطانية والقضاء عليها، وغيرها تقارب عن طريق فهم البيئة الدقيقة للخلايا السرطانية. ومن بين هذه الحقول الواسعة من الموضوعات، اخترت دراسة التغييرات ما فوق الجينية، كحقل تخصصي مع إطلاع معقول على الموضوعات الأخرى، تتيحه لي مشاركتي في المؤتمرات والمحاضرات العلمية.

بتصوري، فإن مدة سبع سنوات نقضيها في مرحلتي البكالوريوس والماجستير كفيلة، اذا ما أحسنّا استغلالها، بتهيئتنا كمرشحين أقوياء لنيل المنح الدراسية، وفي أقوى الجامعات العالمية. انطلاقا من تجربتي الشخصية، فعلى الرغم من أنه لم أوفِ هدفي حقه في مرحلة البكالوريوس، إلا ان اجتهادا استدراكيا في مرحلة الماجستير، وبعناية زائدة في الموضوع الذي رغبت بدراسته، ساعداني كثيرا في اجتيازي للمقابلة التي أجراها معي أساتذة عاملون في حقل الدراسات الجينية في جامعة “إدنبرة” باسكتلندا. هذه النتيجة الطيبة، كثّفت من المشاعر الإيجابية في داخلي، على نحو دفعني لزيادة معرفتي في هذا الحقل العلمي، ومحاولة جسر الهوة بينه وبين دراستي السابقة في الكيمياء.

هذه المقالة وإن كانت دعوة لرسم أهدافنا في ضوء ميولنا وقدراتنا، فإنها في الوقت ذاته دعوة لرسم طريقة الوصول إليها  والسعي باجتهاد نحوها. حاولت أن أسلط ضوءا على جانب من تجربتي بإيجابياتها التي يمكن الاستفادة منها وبسلبياتها التي يمكن تجنبها. هي دعوة للعمل نحو هدف ما، والسعي إليه، فهو القائل جل وعلى: “فاسعوا في مناكبها” ومن ثم “فلله الأمر من قبل ومن بعد”.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.