نظرة على مستجدات النشر العلمي في ظل الانفتاح الرقمي

كثيرة هي المجالات التي عصفت بها رياح الثورة المعلوماتية والرقمية التي يشهدها العالم خلال العقود الأخيرة عبر منظومة من المؤثرات التي يدور حولها الكثير من الجدل والنقاش. من بين تلك المجالات كان للأكاديميا نصيب وافر من خلال إحداث تغيرات متلاحقة على أصعدة التدريس والبحث العلمي. وبما أن النشر العلمي هو بمثابة آلية لإيصال ومراكمة واستخدام الانتاج والمعرفة العلمية على صعد حياتية مختلفة فهو يقع في مركز تلك التطورات.

على مستوى النشر العلمي العالمي فإن قاعدة البيانات التي أسستها  "Thomson-Reuters (TR)" )المعروفة سابقاً بمعهد المعلومات العلمية- ISI) في أمريكا الشمالية كانت الأكثر شهرة حتى زمن قريب في مجال عرض المنشورات العلمية وقياس تأثيرها. ولا زال كثيرون يعتبرون المجلات العلمية التي تغطيها قاعدة البيانات هذه  والتي يقارب عددها ثلاثة عشر ألفاً (1) الأفضل في تخصصاتها من بين عشرات آلاف المجلات العلمية التي تنشر مقالات ودراسات في حقول وتخصصات مختلفة، على الرغم من الانتقادات المتعلقة بضعف تغطيتها للعلوم الاجتماعية والانسانيات.

وقد ساهم تطوير "TR" لمعامل التأثير للمجلات العلمية (Impact Factor) منذ سيتينيات القرن الماضي بتحقيق ما يشبه التفرد داخل الأوساط العلمية لقاعدة البيانات هذه وللمجلات التي تغطيها من ناحية تصنيف مستوى ونوعية ما ينشر في الكثير من الحقول العلمية. إلا أنه ومع إطلاق قاعدة بيانات "Scopus" من قبل شركة النشر الأوروبية العملاقة "Elsevier" في عام 2004 فقد بدأ تفرد "TR" بالانحسار. يأتي ذلك نتيجة قيام قاعدة بيانات "Scopus" بتغطية ما يقارب ضعف عدد المجلات التي تغطيها TR مضاف إليها أعداد كبيرة من الكتب المنفردة والدورية (2)، وقيامها كذلك بتطوير أكثر من معيار لقياس تأثير المنشورات العلمية مثل SJR و SNIP وأخيراً CiteScore الذي أطلق حديثاً. وقد أدى كل ذلك لأن تصبح معطيات "Scopus" معتمدة من قبل شركات التصنيف الجامعي العالمية كمصدر شبه وحيد لقياس الانتاج العلمي للباحثين ولمؤسساتهم كماً ونوعاً.

مع القفزات الرقمية المتلاحقة وبسط محرك بحث Google لسلطانه في العالم الرقمي مع بداية القرن الحالي فقد ظهرت منصة الباحث العلمي "Google Scholar (GS)" كمنافس قوي –إن لم نقل كبديل- لكل من "TR" و "Scopus". حيث يستفيد "GS" من قدرات محرك بحث Google على الوصول لكل ما ينشر تقريباً في العالم الرقمي من انتاج علمي في الدوريات والمجلات والكتب وأطروحات الدراسات العليا وأوراق المؤتمرات والتقارير والدراسات وغيرها. ليس هذا فحسب بل إن "GS" ومؤيدوه في العالم الأكاديمي يطرحون مقاربة جديدة مثيرة للجدل تنال من الأسس التي كانت تعتبر راسخة في مجال النشر العلمي وتقييم مستواه وتأثيره، من خلال اعتبار أن أي وثيقة منشورة هي قابلة للقراءة والاقتباس بغض النظر عن الموضوع الذي تتناوله أو الكاتب الذي ألفها أو المنطقة أو اللغة التي صدرت بها (ما أصبح يطلق عليه "دمقرطة الانتاج العلمي وقياس التأثير").

يأتي ذلك في إطار تغييرات جذرية طرأت على طبيعة النشر العلمي نتيجة لبروز النموذج المفتوح للنشر (Open-Access Publishing) بما له وما عليه (3)، وفي ظل تبلور مجموعة من الاشكاليات المتعلقة بقواعد البيانات وأساليب النشر العلمي التقليدية التي يرددها المدافعون عن نمط "GS" (4)، ومن أهمها:

  • الاحتكار التجاري لشركات النشر الكبرى الذي أدى لارتفاع كبير في تكلفة الاشتراك في قواعد البيانات والدوريات والمجلات العلمية، وحال بشكل هام دون وصول الباحثين في الدول الفقيرة إلى المنشورات العلمية،
  • اعتماد قواعد البيانات الكبرى مثل "TR" و "Scopus" على المجلات والدوريات الصادرة غالباً في الدول الغربية، مما قد يحدث تحيزات في المواضيع التي يتم تغطيتها، إضافة للتحيزات الجغرافية واللغوية، حيث غدت الانجليزية لغة مهيمنة في مجال النشر العلمي،
  • الاقتصار شبه الكامل على المقالات العلمية المنشورة في المجلات في موضوع قياس التأثير، دون إيلاء اهتمام كبير لقياس تأثير الكتب والأطروحات والتقارير وما شابه، وهو ما يدفع المؤلفين المحتملين نحو تفضيل النشر في المجلات العلمية كونها لا زالت الأكثر ثقلاً في أنظمة الترقية والتثبيت وفي الحصول على التمويل للمشاريع البحثية،
  • التركيز على المنشورات والدوريات العلمية بشكل منفرد مع غياب "بروفايل" اجمالي للباحث وضعف مؤشرات قياس إنتاجه البحثي ككل،

ومع تغلغل وسائط التواصل الاجتماعي في مناحي الحياة المختلفة فقد أصبح من المهم قياس التأثير للمنشورات العلمية الذي تحدثه في تلك الوسائط، وفي المنصات الرقمية التفاعلية والشبكات الأكاديمية والمهنية الآخذة في التزايد وتوسيع النشاط مثل "Research Gate" و "Academia" و "LinkedIn". ولم يعد من الخافي القول بأن النمط التقليدي للنشر العلمي وقواعد البيانات المرتبطة به تعاني من قصور في هذا الجانب، وهو ما يؤدي لبروز جهات تسعى لتغطية هذا القصور مثل موقع "Impact Story" (5).

لقد ساهمت هذه العوامل بشكل متزايد في تعزيز نفوذ GS والمنصات والشبكات الأخرى سالفة الذكر والتي تتيح إنشاء حسابات شخصية مجانية للباحثين لعرض إنتاجهم العلمي والفكري المحكم وغير المحكم للجمهور بشكل مفتوح وبلغات مختلفة، بالاضافة لتوفير إمكانية للتفاعل والنقاش بين الباحثين. وهذا أدى فيما أدى إلى تخفيف القيود التي فرضها تقليدياً نموذج تقييم النظراء على النشر العلمي ومنح هامشاً لتقييم النتاج البحثي من خلال الجمهور المتلقي. وهذه التطورات وإن كانت تلتقي مع الانفتاح اللامحدود على تقاسم المعرفة في العالم الرقمي إلا أنها لا زالت تطرح إشكالية تتعلق بمدى جودة وموثوقية ما ينشر وفي بعض الأحيان  تغيب البعد النوعي المتعلق بقياس التأثير والاقتباسات المستلة من الأبحاث المنشورة.

أين النشر العلمي باللغة العربية من كل هذا؟

كما هو معلوم فإن جزءاً كبيراً من التراث والانتاج العلمي المنشور باللغة العربية ليس مرقمناً، وإن كانت هناك جهود تبذل في هذا الاتجاه كما هي الحال مع منصة "المنهل". وأهمية الرقمنة لا تكمن فقط في إتاحة هذا الانتاج للجمهور المعني بل إن لها بعداً هاماً متعلق بالنزاهة الاكاديمية، حيث أن رقمنة وأرشفة المحتوى العلمي تساعد في مكافحة ظواهر الانتحال ومخالفات الأمانة الأكاديمية التي تشكو منها المؤسسات التعليمية حول العالم.

أما المعضلة الأخرى التي يعاني منها النشر العلمي باللغة العربية فتتمثل بالافتقار لمؤشرات لقياس تأثير الأبحاث المنشورة باللغة العربية ورصد الاقتباسات من تلك المنشورات، علماً بأن هناك محاولات تبذل للقيام بذلك، ومن ضمنها مشروع تحديد "معامل التأثير العربي"(6)، والذي لا زال أمامه الكثير للقيام به.

لقد حاولت بعض المجلات العلمية الصادرة من طرف الجامعات العربية الوصول للعالمية من خلال نشر الأبحاث باللغة الانجليزية وطلب الاعتماد من قاعدة بيانات "Scopus" ونجح عدد قليل منها في ذلك، وغالبيتها من المجلات المختصة بالعلوم الطبيعية والتطبيقية. ومثل هذا وإن كان له جانب ايجابي يتعلق بمعايير الجودة إلا أنه لا يجيب بالتأكيد على الحاجة لإنتاج المعرفة باللغة العربية كضرورة علمية وحضارية خصوصاً في العلوم الاجتماعية والانسانية والتربوية. ففي هذه الحقول العلمية يقف الباحثون العرب في أحيان كثيرة بين فكي كماشة، فمن جهة فإن انتاج المعرفة باللغة العربية يخضع لعلامة استفهام تتعلق بالجودة وبقياس التأثير، ومن جهة أخرى فإن إنتاج المعرفة باللغات الأجنبية يخضع لعلامة استفهام تتعلق بعلاقة هذا الانتاج بالواقع المحلي وبتحيزات محتملة تجاه القضايا الجوهرية التي تعاني منها المجتمعات العربية. ولا شك بأن الانفتاح الرقمي الحاصل في عصرنا الحاضر وإمكانية تحميل الانتاج العلمي المنشور باللغة العربية على المنصات والملتقيات التفاعلية العالمية، وعلى مستودعات البحث المؤسساتية في الجامعات العربية تتيح تواصلاً يسيراً بين هذا الانتاج وبين الجمهور، وهو ما يعزز من القيمة الأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية للبحث العلمي. إلا أن كل ذلك لا يغني عن الحاجة لجهد مركزي ممنهج من أجل رقمنة وأرشفة هذا المحتوى، وبلورة معايير موضوعية وشفافة لقياس مستوى ومدى تأثير الأوعية العلمية التي تنشر باللغة العربية.

 

مراجع ذات صلة:

  1.  قائمة JCR الصادرة عن Thomson-Reuters : http://scientific.thomsonreuters.com/imgblast/JCRFullCovlist-2016.pdf
  2. موقع الوصول للمجلات والكتب التي يغطيها "Scopus":
  3.  
  4. طلال شهوان، إضاءة على النشر العلمي المفتوح، مدونات جامعة بيرزيت:
  5.  
  6.  Isidro F. Aguillo, Why Google Scholar? http://www.webometrics.info/sites/default/files/Ediciones_anteriores/Why%20Google%20Scholar.pdf
  7. https://impactstory.org
  8. معامل التأثير العربي: http://arabimpactfactor.com/

   

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.