مساق دفاتر السجن يستضيف في بيرزيت المحرر قدري أبو بكر

استضافت دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، ضمن المساق الخاص في الجامعة "دفاتر السجن: الحركة الفلسطينية الأسيرة"، الأسير المحرر اللواء قدري أبو بكر، في الندوة العامة الرابعة ضمن سلسلة الندوات العامة التي ينظمها المساق، والندوة السادسة من مجمل فعالياته، بعنوان: "التجربة الإدارية والتنظيمية في سجون الاحتلال الصهيوني"، للحديث عن التجربة الإدارية والتنظيمية ودستور الحركة الأسيرة، خاصة في سجون عسقلان وبئر السبع وجنيد وطولكرم.

وقدري أبو بكر من أوائل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وأمضى فيها 17 عامًا. وكان مسؤول ملف أسرى حركة فتح في السجون وأمين سر اللجنة المركزية للحركة. ومن الكتب التي ألفها حول تجربته الغنية في معترك السجن: "هذه هويتي"، عام 1979؛ و"أساليب التحقيق لدى المخابرات الإسرائيلية"، عام 1980؛ و"كيف تواجه المحقق؟" عام 1980؛ و"من القمع الى السلطة الثورية"، عام 1992.

ونوه أستاذ المساق د. عبد الرحيم الشيخ في بداية الندوة إلى القاعدة الأمنية والتنظيمية الأولى من قواعد النضال الذهبية والتنظيمية التي تتلخص في الحكمة اليابانية التي تقول "لا أسمع الشر ولا أرى الشر ولا أتكلم الشر". إذ إنّ الشر بالمعنى الوطني الفلسطيني تتجه بوصلته نحو الاستعمار بكل أدواته، بما يتطلبه ذلك ويستدعيه من مقاومة ورفض لكل هذه الأدوات على اختلاف تمثلاتها.

بدأ أبو بكر محاضرته بالحديث عن بدايات تجربته النضالية في أوائل عام 1968، حين انخرط بالعمل الفدائي مع حركة فتح وانضم إلى معسكرات التدريب في بغداد، وكان آنذاك لا يتجاوز الخامسة عشر من عمره. وتحدث عن ظروف اعتقاله عام 1970 بعد عودته من التدريب العسكري في العراق على خلفية قيامه مع رفيقه محمد شوكت العملة في الأرض الفلسطينية المحتلة في عام 1967، وصلت إلى منطقة قبلان جنوب شرق مدينة نابلس. وعلى إثر عملية أخرى نفذها مع رفاقه في بلدة بيتا القريبة من مدينة نابلس، حُكم عليه بالسجن 20 عامًا، قضى منها 17 عامًا في الأسر قبل ان ينفى إلى العراق.

وقد أكد أبو بكر على وحشية الجيش الصهيوني في التعامل مع الأسرى في السجون والتنكيل بهم على اختلاف الطرق والوسائل المؤدية لذلك؛ كسياسة التجويع الشديد وتعمد القيام بشواء اللحوم في ساحة السجن أثناء إضراب الأسرى عن الطعام، وإهمال تقديم العناية الطبية اللازمة للمرضى وسياسة العزل والتفتيش القمعي والتنقلات المستمرة والتعسفية، فضلاً عن ازدحام غرفة السجن الواحدة بما لا يتسع لها، وغير ذلك من الممارسات الاضطهادية والفاشية تجاه الأسرى المناضلين وعدم السماح لهم بالتواصل مع عائلاتهم وحرمانهم من القراءة والكتابة. وكنتيجة لذلك، لجأ الأسرى إلى عدد من الإضرابات الموحدة عن الطعام لانتزاع حقوقهم، وهي الوسيلة الأكثر استخدامًا في الإضراب داخل السجون، حيث يرهن الأسير جسده فداءً لكرامته وحقّه. ومن هذه الإضرابات عن الطعام في فترة السبعينيات والثمانينيات: إضراب عام 1972 في سجن عسقلان واضراب عام 1976- 1977 في السجن نفسه، الذي استمر 41 يومًا، وبالتنظيم السرّي بين الأسرى، فقد استؤنف بعدها بيومين لمدة 22 يومًا نتيجة عدم تنفيذ إدارة مصلحة السجون لمطالب الاضراب التي أجملها الأسرى في 16 مطلبًا، بالإضافة إلى إضراب بئر السبع المفتوح عن الفورة والطعام الذي استمر 13 شهرًا، وإضراب سجن الجنيد عام 1984. وقد تمكنت الحركة الأسيرة في ذلك الوقت من تحقيق العديد من المطالب والحقوق.

ويتابع أبو بكر: استدعت الحاجة الضرورية والملحة لتنظيم شؤون السجن وإدارته داخليًا من قبل الأسرى انفسهم. فبدأ العمل في أواخر عام 1973 ومن سجن بئر السبع على تشكيل هيكلة تنظيمية للحركة الأسيرة ودستور لحركة فتح داخل السجن، وقد صاغ مسودته أبو بكر بنفسه، وتمّ تعميمه على حوالي 600 أسير، منهم حوالي 452 أسير ينتمون الى حركة فتح. وبعدها وزعت لوائح باسم كل الأسرى المنتمين للحركة، وجرى تداول الانتخابات فيما بينهم، بين فرز وانتخاب، حتى تم انتخاب 21 عضوًا شكلوا ما يعرف باسم المجلس الثوري، الذي ينتخب بدوره 9 أسرى يشكلون اللجنة المركزية التي تنتخب موجّها عاما لها في السجون وأمام مصلحة إدارة السجون الصهيونية. وكانت هذه العملية أول عملية انتخابات ديمقراطية لحركة فتح داخل السجون. وقد عمل الجهاز التنظيمي على ادارة شؤون الأسرى الداخلية والتنظيمية وعدم السماح لإدارة مصلحة السجون بالتدخل بينهم، كما وزع المهام بين الأسرى بين الإشراف على شؤون الأمن والثقافة والشؤون المالية والإدارية. وبذلك، عادت المركزية الداخلية الى الاسرى في تنظيم أنفسهم وتوحيد موقفهم امام مصلحة ادارة السجون.

ويضيف أبو بكر أنّ العمل التنظيمي والإداري داخل السجن شمل ايضًا وضع لائحة عقوبات بحق من يخرج عن الإطار الدستوري والتنظيمي للحركة، على شرط أن توافق أغلبية القاعدة الإدارية على هذه اللائحة. وتبتدئ لائحة العقوبات من عقوبة التنظيف داخل السجن إلى عقوبة الإعدام، فقط بحق من تثبت عليه تهمة الخيانة وباعترافه وبموافقة كل أعضاء اللجنة المركزية دون استثناء. ويعقّب بأنّ عقوبة الإعدام كانت حساسة ولها اعتباراتها الدقيقة، إذ كان يستثنى منها الأسرى دون سنّ العشرين، الذين اعترفوا بخيانتهم؛ ففي هذه الحالة كانت الإدارة التنظيمية من الأسرى تحتويهم وتحاول إصلاحهم على اعتبار أنهم قاصرون.

ووضّح أبو بكر أنّ من أهم القواعد التنظيمية والأمنية التي استحدثها الأسرى داخل السجون كانت عقوبة الردع، وهذه العقوبة يقوم بها أسرى ذوو بنية قوية تتركز مهمتها في ضرب الضباط والجنود ممّن يدخلون إلى غرفة المعتقل ويتعمدون إهانة الأسرى والتنكيل بهم. وقد لجأ اليها الأسرى بعد أن أدركوا ضرورة إيجاد وسيلة أخرى غير الإضراب عن الطعام والفورة لتغيير معاملة السجان القاسية تجاههم وفرض شروطهم.

لقد كانت هذه التجربة التنظمية والإدارية من أغنى تجارب الحركة الأسيرة الفلسطينية، إذ كما وصفت صحف العدو القلاعَ الثورية والتنظيمية في السجن بأنها "دولة داخل أسوار"، وهي بالفعل كانت كذلك. ثم قامت إدارة مصلحة السجون بعزل قيادات السجن في سجن طولكرم وهناك استؤنف العمل التنظيمي والإداري، وغلب عليه الجانب الثقافي والتعليمي وتعلم اللغات. وبعدها  انتقلت التجربة التنظيمية إلى سجن الجنيد، وقام الأسرى فيه هناك بالإضراب عن الطعام لمدة عشرة أيام، حتى نفذ حاييم بارليف الذي كان وزيرًا للشرطة آنذاك مطالب الحركة الأسيرة بأكملها.

وختم أبو بكر محاضرته بالقول إن السجن كان في فترة السبعينيات والثمانينيات قلعة ثورية ونضالية ومرجعية وطنية جمعية لا أحد يخرج عن تأطيرها، حتى إن القيادات خارج السجن وداخل الوطن المحتلّ كانت تأخذ تعليماتها وإرشاداتها من الحركة الأسيرة داخل السجون.