كلمة رئيس الجامعة في حفل تخريج الفوج الثامن والثلاثين

 سعادة الدكتور حسين الأعرج، ممثل فخامة الرئيس محمود عباس راعي الحفل،أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة،السادة رئيس وأعضاء مجلس الأمناء المحترمون،أصحاب السعادة ممثلو الهيئات الرسمية المحترمون،السيدات والسادة أهالي الخريجين،الزميلات والزملاء أعضاء المجالس في الجامعة وهيئتها التدريسية،الخريجات العزيزات، الخريجون الأعزاء،أيها الحفل الكريم،يسعدني ويشرفني أن أرحب بكم في جامعة بيرزيت. إننا نحتفل اليوم بتخريج الفوج الثامن والثلاثين. وذلك مدعاة لتذكر أن كلية بيرزيت المتوسطة تحولت إلى جامعة قبل أكثر من أربعين عاماً. ويقول رئيس الجامعة المؤسس، الدكتور حنا ناصر، إن ذلك كان بقرار إرادي يصفه بالبسيط، اتخذته جماعة صغيرة كانت مصممة على مواجهة تحدي الاحتلال، الذي مازال وللأسف يجثم على صدورنا، ومصممة أيضاً على تخطي الصعاب. وإني لأكاد أجزم أنه لم يدر بخلد المؤسسين أن خطوة بدت لهم بسيطة ستؤدي في قابل الأيام إلى بناء صرح أكاديمي شامخ كجامعة بيزيت وإلى إطلاق مشروع التعليم العالي الفلسطيني برمته.
إن من حق شعبنا أن يفخر أنه استطاع، رغم تاريخنا المعذّب ورغم قساوة الظروف، استطاع أن يبني جامعة في رفعة وجودة ومنزلة جامعة بيرزيت، وأنه استطاع ذلك بجهود طوعية تماما. وأحسب أن لذلك دلالات ربما كثيرة، لعل أهمها ثلاث، أولاها أنه يدل على عظمة شعبنا وشموخه. وثانيتها أهمية البدايات التي تبدو صغيرة متواضعة، فكما قيل من البذور الصغيرة تنمو الأشجار الباسقة. وثالثتها أنه إن توفرت الإرادة الصلبة، لن تعدم السبل والوسائل. وإني في هذا الصدد أود أن أذكر بالخير أحد المؤسسين، الدكتور غابي برامكي، الذي غيبه الموت حديثاً فترك خلفه فجوة يصعب ملؤها وحرقة في النفوس.
على أن جامعتكم وجامعتنا، جامعة بيرزيت، لم تكن لتبلغ الشأن العظيم الذي بلغته لولا تضافر جهود أفواج من الأساتذة والموظفين قضى كثيرون منهم جلّ حياتهم في خدمتها وخدمة طلبتها. ويشرفني أن أنوه هنا بتسعة منهم احتفينا قبل فترة وجيزة بهم وبإنجازاتهم وبخدمتهم الطويلة، هم الأساتذة غادة ترزي وليزا تراكي وهلغا بومغارتن ونضال صبري ومحمود العطشان ومنى جقمان والموظفون سمير أبو الحاج ولبيب عيد ووطفة شهوان.
أيها الحفل الكريم،يومنا هذا يوم سعيد. والسعادة الغامرة بادية على محيا كل من خريجاتنا وخريجينا وفي حركات كل منهم وإيماءته. وهي تغمر أيضاً كل أفراد مجتمع الجامعة الذين يفخرون أيما فخر أن كلاً منهم ساهم من موقعه وطوال سنين في الخاتمة السعيدة. لكن أسعد الناس اليوم هم الوالدين والأهل الذين بذلوا الغالي والنفيس وهم يترقبون يومنا هذا، يوم أن يروا الإبنة أو الإبن يرتدي الروب الأسود ويعتمر القبعة ذات الشرشوبة. فللأهل كل الاحترام والتقدير. ودعونا نعبر عن امتنانا لهم بمنحهم جولة تصفيق طويلة.
أيها الحفل الكريم،أستميحكم عذراً إذ أوجه باقي خطابي إلى الخريجات والخريجين.
عزيزاتي الخريجات، أعزاءي الخريجين،يقال إن ما من أحد يتذكر خطابات حفل التخرج، وخاصة مع مرور السنين، لكنني آمل أن يكون بعض ما سأقول أفضل حظاً وألا يطويه النسيان.
قال شاعرنا العظيم محمود درويش في قصيدته مأساة النرجس، ملهاة الفضة مخاطباً الشهداء:

"أيها الشهداء كنتم عل حق، لأن البيت أجمل من طريق البيت".

لكنه عندما بلغ الستين من العمر بدّل تبديلا، قائلاً إنه أيقن أن طريق البيت أجمل من البيت. مهما يكن من أمر، لا شك لدي أن في الشغف بالطريق ضمانة أكيدة للوصول إلى البيت. وبلغة أقل شاعرية، إذا أراد أن يكون المرء كاتباً ناجحاً، فعليه أن يكون شغوفاً بفعل الكتابة، وإذا أراد أن يكون معلماً ناجحاً، فعليه أن يكون شغوفاً بالتعليم، وإذا أراد أن يكون فيزيائياً، فعليه أن يعشق الفيزياء، وإذا أراد أن يكون سياسياً نافعاً، فعليه أن يكون شغوفاً بخدمة الناس، وهكذا. والحق أنكم ستكتشفون وانتم تنتقلون الآن من مرحلة في حياتكم إلى أخرى أن التحديات كبيرة إلى درجة تجعل أفضل وأثبت الجوائز التي يمكن للمرء أن يحصل عليها هي تلك النابعة من داخله، الناجمة عن رضاه عن نفسه، الناجم بدوره عن شغفه بعمله.
وأما الشرط الثاني للنجاح فهو العمل الجاد الدؤوب المثابر الساعي إلى الإتقان. فمن الواضح أن أمراً لن ينجز إن لم تعدّ له عدته بأناة وصبر وتحمّل. على أن المرء ينبغي أن يكون مع الاستعداد الجيد منفتحاً على المفاجأة وعلى ومضة الإلهام والإبداع، وهذه أيضاً لا تحابي غير العقل المستعد المتحفز المدرّب جيداً.
عزيزاتي وأعزاءي، يبدو لي أحياناً أننا في مجتمعنا نعاني ما أسميه فقر التوقعات. فلا يتوقع الطالب من أستاذه الكثير ولا يتوقع الأستاذ من طالبه الكثير؛ ولا يتوقع المرؤوس من رئيسه الكثير ولا يتوقع الرئيس من مرؤوسيه الكثير؛ ولا يتوقع الناس من قادتهم الكثير ولا يتوقع القادة من الناس الكثير؛ والأنكى ألّا يتوقع المرء من نفسه الكثير. أريد أن أقول لكم إياكم وفقر التوقعات. كل منكم قادر على أن يجترح ويحقق أكثر مما يظن إن هو رفع سقف توقعاته من نفسه. ولقد أصاب القائد العظيم نلسون مانديلا الحقيقة عندما خاطب الشباب قائلاً: " ليس أسوأ مخاوفنا أننا عديمو الكفاءة. أعمق مخاوفنا هو أننا أقوياء بما لا يقاس. ما يخيفنا هو ضوؤنا الباهر لا الجانب المظلم فينا. يسأل الواحد من نفسه: من أنا لأكون لامعاً وجميلاً وموهوباً ومعجِباً؟ الحق أن السؤال هو من أنت كي لا تكون هذه كلها؟ لم لا تكون؟ لقد خلقت لتكون. فإن تصاغرت فلن تخدم العالم."
عزيزاتي وأعزاءي،يقودني الحديث عن خدمة العالم إلى ملاحظة ظاهرة عزوف الشباب عندنا عن السياسة، وخاصة بعد التخرج. ولعل في تشوهات السياسة في بلادنا وجامعاتنا ما يفسر ذلك. ولكن دعني أقول لكم إن الواجب الإنساني والوطني يتطلب الانخراط في السياسة، كل حسب معتقداته وآرائه. الانخراط في السياسة بما هي التدخل في الشأن العام وخدمة الناس وتحليل الظروف وبحث الخطط والاستراتيجيات والحوار وتبادل الآراء. يصح ذلك على المجتمعات كلها، فكيف في حالتنا المنكوبة، حيث ما زال الوطن مذ قرن يصرخ مستغيثاً. وإني لألاحظ لدى بعض الشباب أيضاً ضيق ذرع بالوطن وتوقاً إلى مغادرته إلى رحاب الدنيا الواسعة. صحيح أن ما تلقيتموه من علم وتدريب في جامعة بيرزيت، أفضل جامعات الوطن، يفتح لكم أبواب الكون ويؤهلكم لأن تكونوا مواطنين عالميين. وصحيح أيضاً أن وطننا يبدو في كثير من الأحيان قاسياً ومتجهماً. لكنني أود أن تتذكروا أنّى أخذتكم دروب الحياة وأنّى استقر رحالكم أن الوطن هو الوطن. ومرة أخرى، يلهمنا محمود درويش عندما يخاطب الوطن قائلاً:

تكبّر، تكبّر، فمهما يكن من جفاكستبقى بعيني ولحمي ملاكوتبقى كما شاء لي حبنا أن أراكنسميك عنبروأرضك سكروقلبك أخضروجزر الهوى فيك مدّ فكيف إذن لا أحبك أكثر

عزيزاتي وأعزاءي،لقد خاطبتكم حتى الآن عملاً بقواعد اللغة العربية بصيغة المذكر. ولكن لم يفتني أن عدد الخريجات يفوق عدد الخريجين بمقدار الضعف تقريباً. وإننا بذلك لفخورون. أود أن أختتم بمقتطفات من مقطوعة يقال إنها الأكثر شعبية من بين الشعر الإنجليزي كله، وإن لم تكن في رأي النقاد من عيونه. وقد ترجمتها ببعض التصرف جاعلاً إياها تخاطب الشابة، وإن كانت بالطبع للجميع شابات وشباناً:
إذا كنت تستطيعين أن تحتفظي بصفاء ذهنك عندما يفقدُ كلُّ مَن حولَك عقولَهم ويلومونك على ذلك، إذا كنت تستطيعين أن تثقي بنفسِك عندما يَشكّ في قدراتك كلُّ مَن حولَك، لكنك أيضا تأخذين شكوكَهم بالاعتبار، إذا كنت تستطيعين ألا تتعاملي بالأكاذيب عندما يكذبُ الناسُ عنك، أو ألا تستسلمي للكراهية عندما يكرهُك البعض، ومع ذلك كلّه لا تتعالَيْ ولا تتحدثي وكأنك تمتلكين الحكمةَ.
إذا كنت تستطيعين الحلمَ دون أن تستوليَ عليك الأحلام، إذا كنت تستطيعين أن تجابهي النصرَ والهزيمة، وتعاملي كلاً بالبرود سواء بسواء،إذا كنت تستطيعين أن تخسري ثم تبدئي ثانيةً من البدايات، ولا تنبسي ببنتِ شفةٍ عن خسارتِك، إذا كنت تستطيعين الصّمودَ عندما لا تملكين شيئاً غير إرادةِ الصمود.إذا كنت تستطيعين مخاطبة الجماهيرِ دون أن تفقدي فضائلَك، أو أن تمشي مع الملوك دون أن تفقدي صلتَك بالعادي من الناس، إذا كنت تقيمين لكل الناسِ اعتباراً، ولا تقيمين لأي منهم اعتباراً أكثرَ مما يجب،إذا كنت تستطيعين أن تملئي كلَّ دقيقةٍ بستين ثانيةٍ من السعي الحثيث، عندئذٍ سترثين الأرضَ وما عليها.
عزيزاتي وأعزاءي،أتمنى أن يرث كل منكم الأرض وما عليها، وأن يأتيَ يوم تعيشون فيه في وطن حر سعيد.