كلمة الدكتور حنا ناصر في تأبين الدكتور جابي برامكي (3/11/2012)

دولة رئيس
الوزراء الدكتور سلام فياض، هيفاء العزيزة والأعزاء هانية وهاني وسامي والأحفاد
ولورا وجورج، الحضور الكرام: nbsp;

nbsp;

كيف يمكنني التحدث عن جابي بالماضي وكنا ولسنوات طويلة جدا نعمل معا وسويا - nbsp;وذلك بحكم علاقتنا المهنية والعائلية أيضا. nbsp;وحتى خلال سنوات إبعادي الطويلة، كنت على اتصال دائم
مع جابي.nbsp; والآن أتحدث عنه في الماضي. إنه
لأمر صعب للغاية. ولكنها الحقيقة الحزينة التي لا مفر منها.

من لا يعرف جابي لا يعرف إخلاصه وجهده وذكاءه وروحه
المرحة وقدرته الفائقة على القيادة بحكمة وصرامة وتواضع. هل نردد هذه الصفات في تأبين من نقوم بتأبينهم ndash; بغض
النظر عن دقة ما نقول؟. أي هل هذه هي كليشيهات التأبين؟ ولكن كل من يعرف جابي يعرف
أن هذه ليست أكليشيهات بل الحقيقة وربما أقل من الحقيقة بقليل.

كنت أحيانا أقارن نفسي مع جابي فأقول إن حصل خلاف بين
جابي وأي شخص آخر فلا بد أن يكون الشخص الآخر على خطأ. وإن اختلفت أنا مع شخص ما -
ففي اغلب الظن أن أكون أنا nbsp;المخطئ. nbsp;

صفاتنا مختلفة ولكنها دائما محفزة بإيجابية بناءة. nbsp;nbsp;وهذا يفسر الانسجام في الرحلة الطويلة التي
قضيناها سويا في العمل المثمر والممتع من أجل جامعة بيرزيت وتطويرها. وكان الهدف دائما
هو التركيز على الارتقاء بالتعليم العالي في فلسطين وتغليفه بروح ليبرالية مشعة ndash;
وما عدا ذلك فهو قشور.

درس جابي في بيرزيت منذ الصغر. وقد فهمت منه أن والديه
أرسلوه وعمره خمس سنوات بسبب شقاوته وحتى ينضبط في القسم الداخلي ndash; أمر يكاد لا
يصدقه أحد عن شقاوة جابي. ولكن من عرفوه في الصغر يؤكدون ذلك.nbsp;nbsp; ويظهر أن شقاوته خفت أو تلاشت بسرعة وتفوق في
الدراسة وخاصة في المرحلة الثانوية. nbsp;وفي
العادة يتفوق الطالب في مادة أو مادتين أو في مجالات العلوم أو الآداب. ولكن جابي
كان متفوقا nbsp;في كل مواضيع دراسته. في
الكيمياء التي أحبها وتخصص فيها لاحقا وفي اللغة العربية وفي اللغة الانكليزية أيضا.
nbsp;

وتفوق لاحقا في دراسته الجامعية في الجامعةnbsp; الأمريكية في بيروت التي درّس فيها قليلا فيها قبل
أن يعود إلى بيرزيت ليدير مدرستها الثانوية (وكانت تسمى كلية بيرزيت في حينه) في nbsp;بداية الخمسينيات.nbsp;

وخلال
إدارته للمدرسة كان جابي مهتما بالثقافة والموسيقى . وكان يقيم نشاطا خاصا من أجل تنوير
الطلبة في حب الموسيقى الكلاسيكية وفهمها. وكان مولعا ايضا بالشعر العربي ويحفظ
الكثير منه ويرعى حفلات سوق عكاظ ndash; وخاصة فقرة المساجلة الشعرية.nbsp;

وعندما التحقت بسلك التعليم اختلفت معه في موضوع
المساجلة الشعرية. nbsp;وكنت أجدها مضيعة للوقت
ndash; إلا من الناحية التراثية، أو كتدريب للذاكرة. nbsp;وكنت أفضل ان يقضي الطالب ساعات في قراءة كتاب
بدلا من حفظ أبيات متناثرة من الشعر ndash; حتى يلقي بيتا يبدأ بآخر حرف انتهى من سبقه
به. nbsp;وكنت أستشهد بالقصة التراثية عن رجل
ذهب إلى الوالي ليريه براعته: فقام برمي إبرة nbsp;لتحل في خرم إبرة أخرى. فأمر له الوالي بمائة درهم
nbsp;لهذه البراعة - ومائة جلدة لإضاعة الوقت. nbsp;ولم يقتنع جابي، nbsp;وربح حبه للشعرnbsp;
واستمر نشاط سوق عكاظ في بيرزيت واستمرت المساجلة الشعرية. وفي كل مرة
تجادلنا في أمر ما ndash; كان جابي هو الرابح. nbsp;nbsp;

داهمنا الاحتلال البغيض في عام 67 وزلزل كل المعايير
والمفاهيم وعلى جميع الأصعدة. فكيف التعامل مع هذا الواقع الجديد. هرج ومرج وتخبط.
وقواعد التعامل ليس معروفة وليست واضحة. والتحدي الكبير كان أن لا نضفي شرعية على
الاحتلال. وكان من أبرز سمات هذا التحدي هو إضراب المحامين عن العمل ndash; على أساس أن
القضاء والقانون هما ركائز المجتمع المدني الحر. nbsp;وكان التعليم أحد الركائز الأخرى. وتعالت
الأصوات بضرورة إغلاق المدارس احتجاجا على الاحتلال ومن أجل إيجاد ضغط عالمي لإنهاء
الاحتلال. واستشارنا ndash; جابي وأنا ndash; الأستاذ ابراهيم صنوبر مدير التربية في حينه. فكرنا
مليا وقلنا يجب فتح المدارس وإلا تراكمت الأمية سنة بعد سنة. وأشعر بسعادة الآن
أنني شاركت في هذا القرار. فالرأي العالمي لم يلعب أي دور كاف ndash; حتى تاريخنا هذا.
وما يلعب دورا هو وجود أجيال nbsp;متعلمة
وواعية ومثقفة وصامدة... الخ.

خلال مطلع الثمانياتnbsp;
ndash; ظهرت مشكلة القرار الجائر 854
والتي طالب الاحتلال فيها أعضاء الهيئة التدريسية الأجانب أو حتى الفلسطينيين
الذين وفدوا بتصريح زيارة للتدريس في الجامعة أن يوقعوا بوثيقة ضد منظمة التحرير.
وجابه جابي والأساتذة في جامعة بيرزيت هذا القرار بتصميم شرس. وساهمت من الخارج في المعركة في
اليونسكو في باريس. والتقيت بمدير اليونسكو في ذلك الوقت - مختار إمبو ndash; الذي
سألني: nbsp;ما هي هذه جامعة بيرزيت ولماذا كل
هذا الضجيج حول أمر إجرائي. فقلت له في بيرزيت قيادة وطنية مسؤولة nbsp;ولا يمكنها التوقيع على مثل هذه الوثيقة ndash; خاصة
أن الشعب بأكمله يعترف بقيادة م ت ف ممثلا شرعيا له. nbsp;وقلت له في بيرزيت أفراد مثل جابي لو عرفتهم ndash;
لعرفت أنهم لا يستكينون. ونجحنا في درء خطر القرار 854 وأصبح القرار بفضل جابي ومن
معه من الأساتذة حبرا على ورق. وربما كانت هذه أهم قضية سياسية/تربويةnbsp; نربحها في حينه على المستوى الدولي والمحلي. nbsp;nbsp;nbsp;nbsp;

عندما صدر قرار العودة لي ولزملاء لي، كان جابي في رحلة
عمل خارج فلسطين. nbsp;فعاد على الفور nbsp;والتقاني في أريحا ndash; على المعبر . وكانت بالنسبة
لي لحظة العمر- nbsp;أن نلتقي مجددا على ارض
فلسطين. nbsp;وفي اليوم التالي ذهبت برفقته إلى
الجامعة ndash; إلى الجموع المصطفة من الطلبة والأساتذة ليحيوا شخصا لم يعرفوه إلا من خلال
جابي. نعم قادني بين الصفوف المجتمعه إلى مكتبه ndash; وقال. هذا مكتبك يا حنا الآن.
لقد حافظت على الأمانة لمدة 19 سنة. واليوم دورك أن تقود في المكان المناسب بعد أن
كنت تقود العملية من الخارج.

هذا هو جابي. رجل أصيل! nbsp;لم يحافظ على الأمانة فقط بل قام بتطوير الجامعة
وفي كل ركن من أركان الجامعة اليوم. ترى بصمات جابي. في الأنظمة وفي التعامل مع الطلبة
وعندما يذكر الطلبة والمدرسون الأيام السابقة فلا بد أنهم يذكرون بذلك جابي.nbsp; روحه المتواضعة طغت على كل شيء في بيرزيت بعنف.
وعندما يقول الناس روح بيرزيت. فربما يعنون بذلك التراث الليبرالي المنفتح الذي
أرساه جابي مع من سبقوه في بيرزيت.

بعد سنة أو سنتين من عودتي من الإبعاد،nbsp; تشكلت أول حكومة فلسطينية وكان وزير التعليم
العالي ياسر عمرو ndash; رحمه الله. فطلب استعارة جابي ليساعده في إدارة ملف التعليم
العالي. وكانت فرصة سانحة ليترك جابي بصماته على التعليم العالي برمته في فلسطين
وهو الخبير في هذا المضمار .

برز لجابي نشاط مميز في المقاطعة الأكاديمية وأرسى قواعد
لها في التعليم الأكاديمي. وخاصة عندما ترأس أمانة سر مجلس التعليم العالي. ونشط
أيضا في المقاطعة بشكل عام. وبهذا كانت مواقفه السياسية واضحة من خلال هذين
النشاطين . وعبر عن هذه المواقف في كتابه عن جامعة بيرزيت والذي أرخ فيه سنوات
عمله والمقاومة السلمية. وقد قدم لهذا الكتاب رئيس الولايات المتحدة السابق جيمي
كارتر الذي كانت له مواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية. وقد أصبح الكتاب مرجعا
كلاسيكيا عن حقبة معينة في فلسطين. وقد ذكرني جابي في هذا الكتاب ndash; ربما أكثر مما
أعرف أنا عن نفسي.

nbsp;بقي جابي مستشارا
في وزارة التعليم العالي لفترة من الزمن. ولم أجرؤ على الطلب منه الانضمام إلى
مجلس أمناء جامعة بيرزيت ndash; حتى لا نتعرض للانتقاد أو نعرض جابي نفسه للانتقاد.
فكيف يمكن أن يكون مسؤولا عن التعليم العالي برمته وفي نفس الوقت له وضع خاص في
جامعة معينة. nbsp;ولكن حال استقالته من
التعليم العالي أو تقاعده انضم بسرعة ألى مجلس الأمناء وأصبح كعادته رجل المهام
الصعبة. nbsp;وتركت له معالجه القضايا الساخنة
ndash; وكان جابي يعالجها واحدة تلو الأخرى بهدوء بالغ nbsp;وبحكمته اللامتناهية ndash; حتى مع بداية مرضه
العضال. وبقي يحضر كل اجتماع للمجلس إلى حين اشتداد المرض عليه واضطراره للمكوث في
المستشفى في القدس. ولم يعد جابي. وغادر الحياة وهو في القدس ndash; مدينته المفضلة
ومسقط رأسه. نعم ولد في القدس ndash; وفارق الحياة فيها. وترك خلفه ألاف الأصدقاء الذين
حضروا شعائر وداعه nbsp;ليعبروا عن حبهم
وتقديرهم لجابي. وها أنا أؤبنك يا جابي وأنا متأكد أن روحك الزكية ترفرف فوق هذا
المكان وتقول ndash; هل هذا حنا يؤبن! nbsp;فأنت تعرف كم أنا أتحفظ في التعامل مع هذه
الأمور الشكلية ndash; وخاصة حفلات nbsp;التأبين.
ولكن كل القواعد أكسرها لك يا جابي ndash; يا ابن خالتي العزيز. فنم قرير العين أن ذكراك
الطيبة وعملك الصالح وروحك المعطاء ستبقى إلهاما ومصدر قوة لنا جميعا. وستبقى
بيرزيت على العهد سائرة ndash; عهد سنفتخر به دوما وأبدا. نعم ndash; نم قرير العين يا جابي.
فقد تركت في الأجيال الصاعدة من سيكمل المسيرة وسيناضل أبدا في تحرير الوطن وتحقيق
الأحلام.nbsp; فهذه وصيتك سنرعاها بحب وحنو
وعزيمة ووفاء.

وإن وجدت
التأبين غريبا علي يا جابي العزيز فهاك بضعة أبيات شعرية متواضعة،nbsp; بالطبع، nbsp;كتبتها خصيصا لك حتى تزيد في رصيدك الشعري للمساجلة:

نعم nbsp;رحلت
يا جابيnbsp;nbsp;nbsp;nbsp; وتركت فراغا صافيا

وستبقى ذكراك ملهمةnbsp;nbsp; للجد والعطاء سامياnbsp;

فنم قرير العينnbsp;nbsp;nbsp; nbsp;nbsp;nbsp;nbsp;nbsp;ولا تنسى أن تخبر المنايا

بأن خلفك أحبة وأصدقاءnbsp;nbsp; ستعمل وفق الوصايا

نعم نم
قرير العين يا جابي: فالقاعة اليوم مليئة بالأحبة والأصدقاء يذرفون الدمع على
فراقك. فأرسل لهم سلاما يطمئنهم أنك في العلى لن تنسى حبهم ووفاءهم. nbsp;nbsp;nbsp;