تأنيث المقاومة: فلسطينيات في سجون العدو

استضافت دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية وضمن  المساق الخاص دفاتر السجن: الحركة الفلسطينية الأسيرة، الأسيرتين المحررتين ربيحة ذياب وعائشة عودة. وقد تحدثتا فيه عن التجارب النسائية في المقاومة والأسر والعمل الوطني ما بعد التحرر. وأتى ذلك في الندوة العامة السادسة من سلسلة ندوات الحرية التي يشرف عليها المساق، والفعالية التاسعة من مجمل فعالياته. وقد عقب د. عبد الرحيم الشيخ في بداية الندوة على أنّ اسم المقاومة مؤنث لغةً ومن هنا انبثق عنوان الندوة، حيث إنّ المقاومة الفلسطينية هي حصيلة مقاومة الفلسطينيين أذكورًا كانوا  أو إناثًا دون طغيان وسيادة  أحدهما على الآخر.

والمحررتان ربيحة ذياب الناشئة في قرية دورا القرع، شمال مدينة رام الله وعائشة عودة من قرية دير جرير، في الشمال الشرقي من المدينة نفسها تمثلان مع العديدات غيرهن على اختلاف جغرافيات الوطن تأكيدًا على أنّ المقاومة الفلسطينية هي مقاومة  الكلّ الفلسطيني بغضّ النظر عن الجنس او العمر او الاتجاه الفكري الحزبي والسياسي و دونما خطابات نسوية مفرطة في التقسيم الجندري. فالمقاومة الوطنية على تنوعها لها عدوّ واحد يأخذ فيها العمل المسلح الواعي صدارة القول والفعل.

وقد أبانت ربيحة ذياب في مداخلتها عن تجارب الاعتقال السبعة التي مرّت بها والتي دفعت فيها من عمرها ما يزيد عن الثماني سنوات، والتي كانت أولاها في عُمر الثانية عشرة والنصف، نتيجة قيامها مع غيرها من أقرانها بمظاهرات وأعمال وطنية بعد نكسة عام 1967؛ وثانيها في عام   1976 في ليلة سفرها الى جامعة بيروت العربية لإكمال سنتها الثالثة، التي حال العدو الصهيوني وعدوانه دون إكمالها وما بعدها والحصول على الشهادة الجامعية. حيث حكمت  ذياب في تلك المرة لمدة 3 سنوات منها سنة ونصف كحكم فعلي وسنة ونص كوقف تنفيذ؛ بينما كان ثالثها في عام 1981 بعد ان عادت ذياب والتحقت من جديد بجامعة بيت لحم، إثر  حجز العدو لجواز سفرها و منعها من السفر، وفي ثالث تجاربها الاعتقالية جاء اعتقالها بذريعة عملها النقابي والوطني في الجامعة وخارجها، والتي سجنت فيها لمدة 5 سنوات منها سنة وشهرين كوقف تنفيذ.

وعطفًا على ذلك فقد حجزت ذياب بعد خروجها من الاسر تحت حكم الإقامة الجبرية مرتين، مدة كل منها 6 أشهر فضلا عن  "أوامر" منعها من مغادرة البيت ممّا حال دون اكمالها لدراستها الجامعية في جامعة بيروت العربية في المرة الأولى وجامعة بيت لحم في المرة الثانية، الأمر الذي أدّى الى حصولها على شهادة البكالوريوس في تخصص علم الاجتماع عام 1999 بعد 25 عامًا من بداية دراستها الجامعية. وفي الوقت ذاته فقد منحت ذياب الآخرين دروسًا عظيمة في المقاومة والتحدّي  والصمود في التحقيق رغم قسوة المحققّ ودناءة ووحشية وسائله في انتزاع الاعتراف من المناضلات والمناضلين، فقد بلغت مدّة احتجازها عام 1981 في التحقيق 112 يومًا دونما اعتراف، أحصتها ذياب على حائط زنزانتها ب "بكلة الشعر"، كما تسرد.

وأشارت ذياب إلى أنّ السجن مشروع مصمم  للقضاء على المشروع الوطني والنفسية الوطنية المقاومة، ومهما ابتدع العدو الصهيوني وسائله في طحن هذا المشروع، يبتدع الأسرى بالمقابل وسائل أخرى لمقاومته ومواجهته، فالسجن معركة مستمرة ومواجهة مباشرة مع العدو ومن اللازم تطوير الوسائل العديدة لقهره. فعلى مستوى سجن النساء  "نفي تريتسا"  القريب من سجن ومستشفى الرملة والذي كان سجن النساء الوحيد في بدايات نشوء الحركة الفلسطينية الأسيرة مما جعل الأسيرات يعشن  فيه حالة عزل تامّة كانت فيها زيارة الأهل للسجن الوسيلة الوحيدة تقريبًا لمعرفة ما يجري في العالم الخارجي. وهذا ما حثّ الأسيرات لابتكار أساليب ووسائل لكسر العزلة التي يفرضها السجّان وذلك بابتكار الكبسولة الورقية لتبادل المعلومات والمعارف ومبادئ الأحزاب السياسية داخل السجون. وقد أكدّت  ذياب على أهمية المعرفة في الصراع المحتدم مع العدو إذ بالمعرفة يمكن اختراق حصونه ويمكن من خلالها التأسيس لبؤرة وعي وطني بصير. ذلك أنّ العلم للشعوب المستعمَرة إذا  ما خلا من النضال والعمل الوطني فهو علم نافل.

وقد حثّت المحررة عائشة عودة في  مداخلتها الشباب على الاطلاع على التجارب الاعتقالية للأسرى من خلال الكتب التي كتبوها و دوّنوا فيها تجربة الاعتقال بالتفاصيل. وعودة لها ثلاثة كتب دونت فيها تجربة الاعتقال خاصّتها، هي: أحلام بالحرية عام 2004، الجزء الأول من تجربتها النضالية؛ وثمنًا للشمس عام 2012، الجزء الثاني؛ ويوم مختلف "قصص قصيرة" عام 2007.  وعائشة عودة واحدة من آلاف المناضلين والمناضلات الفلسطينيين الذين نشطوا في فترة الستينيات وانخرطوا ضمن العمل الوطني والفدائي، وقد اعتقلت في الأول من آذار عام 1969 وحكم عليها بالسجن المؤبد بالإضافة إلى عشر سنوات. وقد أطلق سراحها عام 1979 في عملية النورس لتبادل الأسرى بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني ولكنما كان شرط العدو إبعاد عودة ونفيها خارج الوطن فاستقرت في المنفى في عمّان حتى تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 بعد العديد من الصعوبات والممانعات التي واجهها بها العدو عند عودتها إلى أرض الوطن.

ولفتت عودة  الانتباه إلى لفيف من المناضلات الفلسطينيات اللواتي خضن تجربة النضال معها أو جمعهن السجن بألمه وأمله، منهن: الأسيرة الفلسطينية الأولى فاطمة محمد برناوي التي اعتقلت عام 1967 على إثر قيامها بوضع قنبلة متفجرة في "سينما صهيون" في القدس والتي حكمت بسببها بالمؤبد ولكنها قد خرجت في عام 1977 فيما عرف باسم مبادرة حسن النية قبيل زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس ؛ و عايدة سعد، الأسيرة الغزاوية  صاحبة ال 17 ربيعًا والتي ألقت قنبلتين على دورية عسكرية مارّة  في شارع عمر المختار، الشارع الأكبر في مدينة غزة والتي قتلت فيها  ضابطًا وجنديين والتي خرجت مع عائشة عودة في عملية النورس لتبادل الأسرى ونفيت خارج الوطن إلى ليبيا ثم تنقلت الى سوريا ولبنان وبلغاريا الى ان استقر بها المطاف في دبيّ ؛ وتيريز هلسة  ابنة عكا والتي تسللت الى  "مرجعيون" في الجنوب اللبناني وهي في عمر ال16 لتشارك في تدريبات منظمة التحرير الفلسطينية والتي خططوا عن طريقها لاختطاف طائرة "سابينا" في عام 1972، وقد شارك في هذه العملية أربعة أشخاص، هم: الشهيد علي طه والشهيد زكريا الأطرش وتيريز هلسة ورفيقتها ديمة طنّوس. ورغم الحكم العالي الذي نالته تيريز بعد اعتقالها والذي كان 240 عامًا، أفرج عنها لاحقًا بعد أن قضت 13 عامًا في بطن السجن. هذا بالإضافة الى عدد كبير من الأسيرات المناضلات اللواتي آمنَّ بالقضية الوطنية ولم يلقين بالًا إلى التاريخ المؤرخ، الذي غاب عنه تسجيل رواياتهن وتجاربهن النضالية، مثل: نعيمة بيضون و لطفية الحواري وسارة جودة وداد قمري وعبلة طه و سامية الطويل ورسمية عودة..وغيرهنّ. الأمر الذي يؤكد على ان المرأة الفلسطينية جزء أساسي من العملية النضالية التحررية ضدّ العدو الصهيوني، وهي أيضًا تشكل البطانة لجبهة النضال الخارجية والداخلية معًا والتي تحافظ فيها على استمرار العملية النضالية التحررية، مهما طال المشوار ووعرت طرقه.

وآثرت عودة  الحديث عن عموميات تجربة النضال الفلسطيني ضدّ العدو الصهيوني دونما دخول الى تجارب شخصية؛ إذ الاهم برأيها هو الاشتقاق من التجربة النضالية والحوار حولها والتعلم منها. مثل معرفة السياسات التي يعتمدها العدو في التعامل مع المناضلين خارج المعتقل وداخله والتي تهدف في كل تفاصيلها إلى القضاء على الوجود الفلسطيني وضرورة الحذر من هذه الممارسات والانتباه اليها والميل الى توحيد الخطاب الوطني في مواجهة العدو. فالمقاومة ليس حدثًا عابرًا ينقضي بانقضاء الزمن بل هو نهج حياة كامل أساسة الإيمان العميق بالهدف والتشبث به وعدم الندم على الفعل الوطني التحرري مهما كانت عواقبه.