كلمة رئيس الجامعة د. خليل هندي في حفل تخريج الفوج الأربعين

 

دولة الدكتور رامي الحمد الله، رئيس الوزراء وممثل سيادة الرئيس محمود عباس راعي الحفل،

أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة،

السيدات والسادة أهالي الخريجين،

الزميلات والزملاء أعضاء الهيئة الأكاديمية،

الخريجات العزيزات، الخريجون الأعزاء،

 

يسعدني أن أرحب بكم في رحاب جامعة بيرزيت في هذا اليوم السعيد المشهود، يوم تخريج الفوج الأربعين.

 

أرجو المعذرة لأنني أود أن أخرج عن المألوف لأذكر بالخير زميلين عزيزين غيبهما الموت حديثاً، هما الزوجة والزوج الدكتورة عريب الصيرفي والدكتور سامي الصيرفي اللذين توفيا مؤخراً الواحد تلو الأخرى بعد فترة قصيرة. فقد كرّس هذان الزميلان حياتهما كلها لجامعة بيرزيت ولخدمة طلبتها ومجتمعها من مواقع مختلفة. عليهما الرحمة كليهما.

 

أيها الحفل الكريم،

 

إذا كان هذا اليوم هو حقا يوم الخريجات والخريجين، فلا أسعد اليوم منهن ومنهم غير الأمهات والآباء والأهل، فلهؤلاء كل الاحترام والتقدير، ودعونا نمنحهم جميعاً تصفيقاً حاراً طويلاً امتناناً وعرفانا.

 

أيها الحفل الكريم،

أستميحكم عذرا إن أنا وجهت باقي خطابي إلى الخريجات والخريجين.

 

عزيزاتي الخريجات، أعزائي الخريجين،

أهنئكم وأهنأ أهلكم وأحباءكم وأصدقاءكم بكم. ها أنتم تقطفون اليوم ثمار سنوات من العمل الجادّ على مقاعد الدراسة، فهنيئا لكم ما صنعت أيديكم وطوبى لكم.

 

عندما كنت في عمركم كنت أضيق ذرعا بالنصائح. وكان أن مضت سنون قبل أن أتنبّه إلى أن بعض هذه النصائح سديدٌ مفيد. عندما تذكرت ذلك خطر لي ألاّ أضمّن خطابي لكم أية نصائح. لكنني أدركتُ سريعا أن التقاليد الجامعية تقضي بأن يسديَ خطيب حفل التخرج بعض النصائح. هكذا لا بد لكم من سماع نصيحة أو اثنتين مني، وإني لآمل ألاّ تلاقي مصيرَ النصائح التي أسديت لي عندما كنت في عمركم.

عزيزاتي وأعزائي،

يُنصح ألا تقدم النصائح في صيغة إياكم و ... . لكنني لم أجد إلى اجتناب ذلك سبيلا، فأرجو المعذرة. نصيحتي الأولى هي إياكم والوقوع ضحية مرض إرادي عضال هو مرض السابقة الخطرة. يقال إن هذا المرض يستشري أكثر ما يستشري في المؤسسات الأكاديمية وإنه يستفحل أكثر كلما كان موقع المصاب به أعلى في هرمية اتخاذ القرار وكلما تقدم به العمر. لكنني والحق رأيت هذا المرض متفشيا في مؤسساتنا كلها، وليس الأكاديمية فحسب، ورأيته يصيب كافة الأعمار وعلى كافة المستويات. فما هو مرض السابقة الخطرة هذا؟ في أوائل القرن الماضي، أصدر أحد كبار أكاديميي جامعة كامبردج في إنجلترا كتيبا بعنوان: Microcosmographia Academica، أي "دراسة في عالم الأكاديميا الصغير"، ولا يزال هذا الكتيب رغم قدمه النسبي واسع الانتشار، ما يعني أنه اجتاز اختبار الزمن. وصف هذا الكتيب مرض السابقة الخطرة كما يلي: إذا ما واجه المصاب بهذا المرض مسألة صعبة لجأ إلى التسويف والمماطلة والمناورة والمداورة والأخذ والرد، إما لأنه يفتقر إلى الشجاعة الكافية لاتخاذ القرار الصائب أو لأنه، حتى لو توفرت له هذه الشجاعة، يخشى أن يشكل القرار الصائب سابقة خطرة ترتد عليه إذا ما واجه في المستقبل مسألة صعبة نظيرة أو شبيهة ولم تتوفر له حينها شجاعة اتخاذ القرار الصائب. من هنا، يرى المصاب بهذا المرض أن أي قرار يخرج على المألوف المعتاد إما أن يكون خاطئاً أو إذا كان صائباً فإنه يُخشى أن يشكل سابقة خطرة. ولذا يجب ألا يُفعل أي شيء على الإطلاق لأول مرة.

 

ويقال أيضاً إن المصاب بهذا المرض يظل يتعلل بأن الأمور لم تنضج بعد، فتتعفن الأمور وتتحلل وتتفسخ وهو لا يزال ينتظر نضوجها.

 

واضح أن مرض السابقة الخطرة هذا يحول دون تقدم المؤسسات وتطورها ويفقدها شجاعة التغيير والتجديد، ويجعلها تراوح مكانها ثم لا محالة تتقهقر. كما أنه على صعيد الأشخاص يقضي على ملكة الإبداع والابتكار والريادة وشق طرق لم يعرفها آخرون وربما لم تحلم بها الإنسانية.

 

وفي رواية أخرى أن المصاب بمرض السابقة الخطرة يخشى أن يتخذ القرار الصائب العادل لئلا يرتفع سقف التوقعات فيصبح متوقعا منه أن يكون حتى أكثر عدلا وصواباً في المستقبل. ويقودني الحديث عن رفع سقف التوقعات إلى نصيحتي الثانية لكم وهي: إياكم والوقوع ضحية مرض فقر التوقعات. هذا المرض الذي يجعل الطالب لا يتوقع من أستاذه الكثير والأستاذ لا يتوقع من طلابه الكثير، والمرؤوس لا يتوقع من رئيسه الكثير والرئيس لا يتوقع من مرؤوسيه الكثير، والناس لا يتوقعون من قادتهم الكثير والقادة لا يتوقعون من الناس الكثير. والأنكى ألّا يتوقع المرء من نفسه الكثير. إياكم ومرض فقر التوقعات هذا، وخاصة توقعاتكم من أنفسكم. فكل منكم قادر على أن يحقق أكثر مما يظن إن هو رفع سقف توقعاته من نفسه. لتقل كل منكنّ لنفسها على الدوام وليقل كل منكم لنفسه على الدوام: إنني أجمل مما يخيّل لي، وأقوى مما أبدو، وأشجع مما أعتقد، وأذكى مما أظن. لتقل الواحدة منكن لنفسها لقد خلقت لأكون جميلة قوية شجاعة ذكية، وليقل الواحد منكم لنفسه لقد خلقت لأكون جميلا قويا شجاعا ذكيا.

 

عزيزاتي وأعزائي،

ها أنتم توشكون أن تلتحقوا بتسعة وثلاثين فوجاً من الخريجين الذين سبقوكم إلى هذا الشرف. ولقد رفع هؤلاء اسم جامعة بيرزيت عالياً، مثبتين بالعمل قبل القول أنها جامعة الوطن الأولى رفعة ومكانة.  فكلهم نذر نفسه لخدمة الناس والبلاد، وتفانوا جميعاً في العمل، كل بطريقته، من أجل إعلاء شأن الوطن والنضال في سبيل تحريره.  فمنهم قادة فكر ورأي، ومنهم أكاديميون لامعون، ومنهم عاملون في مهن إنسانية رفيعة في التعليم والصحة والعمل الاجتماعي، ومنهم رجال أعمال ورياديو أعمال ناجحون، ومنهم سياسيون منخرطون في الخدمة المدنية. 

 

واليوم إذ تجتاح البربرية بلادنا الأوسع، بربرية الحكام وبربرية المعارضات، تصرخ أوطاننا مستغيثة، طالبةً قادة ومفكرين يأبون رغم كل القهر والتعتيم والظلامية إلا أن يكونوا جزءا من العالم المعاصر، تحركهم هموم الكرامة والحرية والعدالة، ويثورون على عفن وفساد وتكلـّس وتخلف دامت كلها عقودا؛ طالبةً قادة ومفكرين رافضين للشعبوية والظلامية والجهل والتجهيل والدغماتية والغوغائية والتعصب والانغلاق. وكلنا أمل ألا تصموا آذانكم عن نداء الأوطان هذا.

 

عزيزاتي وأعزائي،

ليومنا هذا مكانة خاصة في نفسي، فأنا أيضاً بمعنىً ما خريج هذا العام، إذ سأغادر منصبي بعد بضعة أيام. دعوني أقول إنه، برغم المصاعب والمتاعب، الأيام التي قضيتها هنا في جامعة بيرزيت من بين أسعد أيامي، فمنذ يفاعتي، هذه هي المرة الأولى التي أعيش فيها في بلد كل من حولي فيه فلسطينيون. صدّقوني أن لذلك طعماً خاصاً ونكهة مميزة. وإني وإن كنت سأعاود الترحال، ستظل لجامعة بيرزيت مكانة خاصة في نفسي، وسيظل لسان حالي يردد لها ببعض التصرف قفلة من شعر محمود درويش:

فمهما يكن من جفاكِ

ستبقين كما شاء لي حبنا أن أراكِ

نسيمكِ عنبر

وأرضكِ سكر

وقلبكِ أخضر

وجزر الهوى فيكِ مدّ

 فكيف إذن لا أحبكِ أكثر.

وإني لعلى ثقة من أنكم أنتم أيضاً ستتخذون في قابل الأيام الموقف ذاته من جامعتكم الأم الرؤوم، جامعة بيرزيت، وستظلون ترددون لها:

ستبقين كما شاء لي حبنا أن أراكِ

نسيمكِ عنبر

وأرضكِ سكر

وقلبكِ أخضر

وجزر الهوى فيكِ مدّ

 فكيف إذن لا أحبكِ أكثر.