غادرت بيرزيت خريجة وعادت محاضِرة د. وفاء خاطر: الفلسطينية الأولى في فيزياء الجسيمات الدقيقة تتحدث عن رحلتها في ميدان العلوم 

"التعلُّم والتعليم بشكل عام، أساس تقدّم المجتمعات. وأرى في نفسي وفي الكثير من النساء السابقات ممن تخصصن في العلوم، نموذجاً وقدوة للفتيات الشابات ليتجهن أكثر نحو التخصصات العلمية"، تقول د. وفاء خاطر، الأستاذ المساعد في دائرة الفيزياء في جامعة بيرزيت بمناسبة اليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم.

قد تتجنب النساء والفتيات المجالات المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا بسبب القوالب النمطية التي تُبعد المرأة عن هذا الميدان، فحسب تقرير أعده معهد اليونسكو للإحصاء عام 2018، يوضح أنه عادة ما تكون النساء غير ممثلات تمثيلاً كافياً في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، وأن أقل من ثلث النساء في العالم يعملن في البحث العلمي والتطوير، ولا تزال وتيرة التقدم بهذا الصدد بطيئة. على الرغم من ذلك، هناك العديد من الفلسطينيات، لا سيما من أكاديميات جامعة بيرزيت، تحدّين هذه التحيزات، واستطعن أن يحققن إنجازات قيّمة في المجال العلمي. 

د. خاطر، هي واحدة من تلك النساء اللواتي نجحن في تغيير الصورة النمطية حول دور النساء في مجال العلوم، فقد بدأ شغف د. خاطر يتجه نحو المجالات العلمية منذ مراحل الدراسة الأولى، لتصبح لاحقاً أول فيزيائية فلسطينية تتخصص في مجال فيزياء الجسيمات الدقيقة والمسارعات عالية الطاقة، وباتت عضواً في أهم الشبكات والمنظمات العالمية في مجالها.

الشغف والطموح والتشجيع من أجل النجاح

تصف د. خاطر بداية رحلتها نحو التخصص في الفيزياء بأنها لم تكن سهلة، حيث تقول: "من تجربتي، أذكر أنني عندما اخترت الفرع العلمي في الثانوية العامة، لم تكن هناك في منطقة رام الله سوى مدرسة حكومية ثانوية واحدة للبنات في الفرع العلمي وهي "مدرسة رام الله الثانوية للبنات"، وهذا تطلب أن أتنقل من القرية إلى المدينة يوميّاً للدراسة، ولم تكن وقتها المواصلات العامة متاحة كما هي اليوم، ولم يملك أي أحد من عائلتي سيارة خاصة نظراً للظروف الماديّة، كما أن الوضع السياسي كان غير آمن، فقد كنا في أواخر مرحلة الانتفاضة الأولى".

وعلى الرغم من ذلك، أنهت د. خاطر دراستها في الثانوية العامة وبتفوق، وكانت بنفس الوقت تتطلع إلى الدراسة في جامعة بيرزيت، فالتحقت بالجامعة وتخصصت بالفيزياء. وأكملت دراساتها العليا في الماجستير والدكتوراة في معهد الفيزياء والتكنولوجيا (IFT) في جامعة بيرغن (UiB) في النرويج.

تقول د. خاطر: "دعم العائلة الإيجابي، سواء ماديّاً أو معنويّاً هو الأساس للاستمرارية للنساء والفتيات الراغبات في التخصصات العلمية ولديهن الشغف والقدرة على ذلك. وأذكر هنا والدتي ووالدي رحمهما الله، مع أنهما لم يتمكنا سوى من تحصيل التعليم الابتدائي بسبب ظروف عام 1948 والنكبة وآثارها على المجتمع، إلا أنهما كانا من المشجعين على التعليم، وخصوصاً للبنات".

وفي هذا الإطار، تؤكد د. خاطر على دور المجتمع والمؤسسات المختلفة في توفير بيئة مناسبة وجاذبة للفتيات والنساء للتخصص والاستمرار، وتشير إلى دور جامعة بيرزيت في تشجيعها على متابعة شغفها وطموحها في مجال الفيزياء، تقول: "لقد ساهمت الجامعة في تغطية جزء كبير من التكاليف المالية لدراستي عن طريق برنامج المنح الدراسية مثل منحة المرحوم موسى ناصر. واستفدت كثيراً من سمعة الجامعة عالميّاً، حيث حصلت على منحة لاستكمال دراستي العليا عن طريق الجامعة بعد أن أنهيت درجة البكالوريوس".

وتبين د. خاطر، كعضو في الهيئة الأكاديمية في كلية العلوم بجامعة بيرزيت، أن عدد الطالبات المتخصصات في العلوم الطبيعية في الجامعة يصل إلى أكثر من 70% من نسبة الطلبة، وهذا، حسب وصفها، مؤشر صحي لمصلحة النساء المتعلمات. 

إن تشجيع بيرزيت الذي بدأ منذ سنتها الأولى في تخصص الفيزياء، استمر مع د. خاطر حتى اليوم كأكاديمية في دائرة الفيزياء، وتوضح: "ما زالت الجامعة تساهم في بناء شبكات مع علماء من جامعات عالمية مرموقة لإفادة أعضاء الهيئة الأكاديمية والطلبة والخريجين". وذكرت على سبيل المثال برنامج "فيزياء بلا حدود" بالتعاون مع المركز العالمي للفيزياء النظرية “ICTP”، الذي ساهم كثيراً في إفادة خريجي دائرة الفيزياء، وخصوصاً الفتيات والتعريف بهن".

تخصصات بحثية فريدة 

إن شغف د. خاطر في مجال العلوم، وإصرارها وجدّها في الفيزياء على وجه خاص، جعلها تصير أول فيزيائية فلسطينية تتخصص في مجال فيزياء الجسيمات الدقيقة والمسارعات عالية الطاقة، وهو الذي يبحث في الجسيمات الدقيقة ما دون الذرّة، التي منها يُبنى الكون، وتتشكل مكوناته وتترابط الجسيمات فيما بينها بواسطة قوى طبيعية مختلفة لتشكل ما يراه الإنسان من مواد وأجسام كبيرة موجودة في الكون. وقد تميز عملها البحثي في تطبيقاته التي تُجرى في مسارع الهادرونات الكبير (LHC) الموجود في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN)، وهو أضخم مختبر في العالم في مجال فيزياء الجسيمات، ويعتبر مسارع (LHC)  من أكبر المختبرات العالمية. 

وقبل التخصص في هذا المجال، وخلال دراستها للدكتوراة، تركزت أبحاث د. خاطر، النظرية منها، حول جسيم يعرف باسم جسيم "هيجز بوزون"، وهي من الأبحاث التي تفتخر د. خاطر بها. وعن سبب افتخارها بهذه الأبحاث، تقول: "لم يكن هذا الجسيم مكتشفاً في ذلك الوقت، لكن النظريات تنبأت بوجوده في الكون. وقد درستُ خصائصه وعلاقته باختلال قانون حفظ الشحنة والانعكاس المكاني في التصادمات عالية الطاقة بين الجسيمات. وهذا أول بحث لي نتجت عنه ورقة علمية نُشرت في مجلة علمية مرموقة وبالتعاون مع مشرفي على الدكتوراة البروفيسور Per Osland".

وتضيف: "في ذلك الوقت، كان المسارع الكبير في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية قيد البناء للبدء بالتجارب التطبيقية للدراسات النظرية. وقد ازداد فخري بهذا البحث، لاحقاً، إذ بعد أن أنهيت درجة الدكتوراة وأصبحت عضو هيئة أكاديمية في جامعة بيرزيت، تم الإعلان عن اكتشاف جسيم "هيجز بوزون" وإثبات وجوده عام 2012: "لقد شعرتُ بإنجاز كبير، لأن بعض دراساتي النظرية السابقة، لها نتائجها على أرض الواقع!".

وبعد الانتهاء من بناء مسارع الهادرونات الكبير عام 2007 في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، تمت دعوة د. خاطر من قبل رئيس قسم الفيزياء النظرية في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) البروفيسور John Ellis لزيارة علمية امتدت لمدة شهرين في صيف 2007، لحضور المؤتمرات وورشات العمل التي عقدت هناك". واليوم، د. خاطر لديها منحة زمالة منتظمة في المركز العالمي للفيزياء النظرية (ICTP) في شمال إيطاليا، وعضو في منظمة النساء في العلوم في المجتمعات النامية (OWSD)، وعضو هيئة تأسيسية للفرع الفلسطيني لهذه المنظمة، وهي عضو مؤسس في مجموعة علماء من أجل فلسطين (Scientists for Palestine) وكذلك عضو في مؤسسة تشارك المعرفة (SKF). 

وتؤكد أن أهمية العضوية والمشاركة في مثل هذه المؤسسات والمنظمات العلميّة تعزز فرص التشبيك مع علماء وجامعات مرموقة عالميّاً وكذلك لنشر المعرفة والعِلم، كما أن بعضها له خصوصيته في التركيز على وضع العِلم والبحث العِلمي تحت الاحتلال، أو التركيز على موضوع النساء في العلوم في المجتمعات النامية.

تشجيع خريجات بيرزيت في ميدان العلوم 

كانت د. خاطر الفيزيائية العربية والفلسطينية الوحيدة بين جمهور كبير من العلماء خلال زيارتها الأكاديمية في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية. وكسيدة ناجحة في مجال الفيزياء، استطاعت أن تتحدى التحديات التي قد تواجه النساء والفتيات في هذا المجال، ولم تغب فكرة إتاحة الفرص لمبدعات شابات للانخراط في مجال العلوم طوال رحلتها في ميدان الفيزياء، حيث بحثت خلال زيارتها للمنظمة فرصة التعاون مع خريجات وخريجي الجامعة لعمل تجارب في المنظمة، لا سيما في هذا التخصص الدقيق المطلوب في القرن الحادي والعشرين، وتقول: "أذكر خريجة دائرة الفيزياء بجامعة بيرزيت د. تسنيم سليم التي تعمل الآن أبحاث ما بعد الدكتوراة في فرنسا كإحدى النساء المتميزات في هذا التخصص الدقيق، حيث عملت في تجربة ATLAS". 

وATLAS هو إحدى التجارب السبع للكشف عن الجسيمات التي تم إنشاؤها في مسارع (LHC)، وقد تم تصميم التجربة للاستفادة من الطاقة غير المسبوقة التي يتيحها المسارع، وهو من إحدى التجارب التي ساهمت في اكتشاف هيجز بوزن عام 2012. (المصدر: atlas.cern)

إن مثل هذه التجارب والتخصصات، وإثبات تميز النساء فيها، تقتضي من الجميع تسخير كافة الإمكانيات لنبذ القوالب النمطية الجنسانية، وتقليص الفجوة بين الذكور والإناث في مثل هذه التخصصات. وهنا، تعتقد د. خاطر أن هناك الكثير ما يمكن عمله لتخطي ذلك، وتوضح: "البداية تكون من العائلة التي هي الداعم الأساسي للنساء في العلوم، ثم المدرسة، فمن الواجب الاستثمار في برامج ومعلمات ومعلمين لتشجيع الفتيات على التخصصات العِلميّة، خصوصاً الفتيات اللواتي لديهن الشغف والقدرات لهذه التخصصات وتوفير التدريب اللازم لهن للاستمرار في مسيرتهن العلمية. ولا بد من الاستثمار أيضاً في تأسيس برامج للدراسات العليا في التخصصات العلمية في جامعات الوطن لتخفيف القيود المجتمعية على الفتيات الراغبات في استكمال مسيرتهن العِلمية".

وأعربت د. خاطر عن أملها بوجود اهتمام عالمي حالي لتشجيع الفتيات والنساء على التخصصات العلمية، منها أن منظمة الأمم المتحدة قد خصصت يوماً عالميّاً للفتيات والنساء في العلوم ابتداءً من العام 2015 وهو يوم 11-2 من كل عام، وتتمنى "أن يستمر الكثير منهن في المسيرة مستقبلاً".  

وفي اليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم، تؤكد جامعة بيرزيت على ضرورة إعطاء النساء العالمات الفرص المتكافئة، وتمكينهن من المشاركة والقيادة في الهيئات العلمية والأكاديمية رفيعة المستوى.