"كل معرفة لا تتنوع، لا يعول عليها.": حول تعليمنا وتعلمنا والهيمنة المعرفية الأوروبية

وجدت نفسي أستند فقط الى مراجع أوروبية وإسرائيلية لإثبات حجتي حول دور الرياضيات والرياضيون الإسرائيليون في خدمة الاحتلال وإدامته. هذا نوع من الرقابة الذاتية. كيف وصلتُ الى هنا؟ لماذا أعتقدت أني بهذا أحاججهم بحججهم هم، وكأن خبراتنا وكتاباتنا كفلسطينيين أقل أهمية؟ هناك تسليم (انصياع؟) بأن المعرفة "الحقة" هي الأوروبية (أو المكتوبة بالإنجليزية على وجه الخصوص). طبعاً هذا لم يأت من فراغ.

أتناول هنا بعض الأسباب مع أفكار لخلخة تلك الهيمنة.

أعتقد أن السبب الرئيس ذو علاقة بالمعرفة نفسها: من ينتجها، ومن ينشرها، ومن ينقلها و/أو يقبلها كما هي – أمر مسلم به، أو كما قال لي زميل "هيك العلم بقول". لا يخفى على أحد مساهمتنا المتواضعة في انتاج المعرفة وتوليدها بشكل عام. ربما يكمن الخطر عند "نقل" تلك المعرفة الى التعليم والتعلم والتسليم بها وعدم الانخراط في نقدها خاصة في الجامعات. أعتقد أن معظم كليات العلوم، على سبيل المثال، في العالم العربي تستخدم كتب باللغة الإنجليزية في التعليم. وحقيقة، يبدو الأمر مبرراً في ظل غياب انتاج معرفي عربي أو مكتوب باللغة العربية. لا أرغب هنا بنقاش طبيعة الكتب المنشورة باللغة العربية فهي ترجمة "غير أمينة" في معظم الأحيان، ولا تنتج عن أبحاث ذات معنى بالنسبة لنا كعرب أو كفلسطينيين، على الأقل في تخصصي mathematics education (لاحظوا كيف اضطررت الى كتابة تخصصي بالإنجليزية في ظل تعذر الاتفاق على مصطلح عربي، غير "أساليب تدريس الرياضيات" الشائع فلسطينياً). لن أتفاجأ طبعاً إن كان نفس الأمر في معظم، وليس كل، التخصصات الأخرى. وهذا يقودني الى الحديث حول فاعليتنا المعرفية (والاجتماعية والسياسية).

يمكن الإشارة هنا الى باحثين عرب "جديين" أمثال نصر حامد أبو زيد، وسمير أمين، ونوال السعداوي، ورشدي راشد وغيرهم. أو أولئك العلماء في الحضارة العربية والإسلامية الذين ساهموا في تطوير العديد من المعارف أمثال الجاحظ (اللغة)، الخوارزمي (الجبر) أو ابن الهيثم (الفيزياء)،  وابن رشد (الفلسفة)، وابن خلدون (علم الاجتماع) غيرهم العشرات. (بالمناسبة، لا زلت أتعلم حول دور المرأة في العلوم العربية الإسلامية في القرون ما بين الثامن والخامس عشر.) أو دعونا نركز فقط على فلسطين وتاريخها الفكري، ولنأخذ من التاريخ الحديث المائة عام الأخيرة فقط، ودعوني أذكر بعض التربويين الذين لا نتعلم عنهم ولم نبحث بعد عن جهدهم بشكل كاف أمثال خليل السكاكيني، ووصفي عنبتاوي وغيرهم. قد ندّرس ونتعلم التربية والتعليم في فلسطين، لكن، وللأسف، يتم ذلك غالباً على شكل وصف عام لأحداث تاريخية تتطلب "حفظ" واسترجاع بهدف الامتحان. لا نسأل أسئلة من نوع: من وضع نظام التعليم لدينا وقسّم المعارف الى علمي وأدبي مثلاً؟ ولماذا لا زلنا "نتمسك" بهذا النظام؟ ما دور دار المعلمين (الكلية العربية) في القدس وغيرها في التربية والتعليم؟ أقصد دراسة وتعمق وتحليل وليس وصف عام. مثلاً، لم أصادف رسالة ماجستير عن فكر خليل السكاكيني التربوي في أي كلية تربية في الضفة وغزة، أو رسائل دكتوراه في الخارج (آمل أن أكون مخطئاً). ونحن الأساتذة (وأنا أحدهم) نتحمل مسؤولية كبيرة عن هذا الوضع. وهنا أشير الى تدريسنا، وهذا سبب ثالث.

غالباً ما نستخدم اللغة الإنجليزية في تدريسنا الجامعي خاصة إذا أردنا الاقتراب أكثر الى المعارف المنتجة حديثاً في مجالات تخصصاتنا. لننظر مثلاً في قائمة المراجع التي نضعها في قراءات المساقات التي نعلمها ونتساءل حولها: ما نوع المعارف التي نقدمها للطلبة؟ من المؤلفون؟ هل توجد مؤلفات نساء؟ مؤلفون من العالم العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أم أن الأمر يقتصر على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أو العالم الناطق بالإنجليزية فقط؟ هل تحمل القراءات مواقف عنصرية؟ الخ من هذه الأسئلة التي نحتاج الى إثارتها إذا أردنا خلخلة تلك الهيمنة المعرفية.

دعوني أذكر مثال بسيط ربما يعلمه معظمنا سواء في التربية وعلم النفس أو في تخصصات أخرى، والذي أصبح "طبيعياً" و"علمياً" في مجتمعنا وهو ما يسمى بـ "المنحنى الطبيعي" – لاحظوا الاسم! حتى طلبتنا يسألوننا عند وضع علامات المساق "راح تعمل كيرف curve يا أستاذ؟" أصبح الأمر مسلماً به دون أن نتساءل حوله ونسائله. من قال أن هذا طبيعي؟ ما معنى كلمة طبيعي هنا أصلاً؟ لاحظوا أن الاسم لم يأت صدفة وله تبعات جدية. إذا قبلنا (ونحن نفعل ذلك في الغالب) هذا التعريف والوصف، غالباً نقبل تبعاته. لنأخذ ما يسمى بـ "المنحنى الطبيعي للذكاء". أحد مظاهر هذا المنحنى أن هناك فروقات بين "نسب" ذكاءات الناس بحيث يمكن تصنيف الناس هرمياً. يعني، أن هناك ناس أكثر ذكاءً (وبالتالي "أفضل") من آخرين، ويجب أن يتسلم هؤلاء – أي "الأذكى" و"الأفضل"– زمام الأمور. دعونا نتوقف قليلاً ونتأمل ما توصلنا إليه في العبارات السابقة ونرى أين نذهب في هذا المنطق، ونفكر حول تبريرات التمييز ضد النساء (الرجال أفضل)، وضد ذوي الاعاقات المختلفة مقارنة بما يسمى "أسوياء"، وضد ذوي البشرة السوداء، وحتى لتبرير غزو الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان ("نريد تعليمهم الديمقراطية"). اتخذ الأمر برمته شكلاً اجتماعياً وسياسياً لم ولن تتضح معالمه بدون إثارة التفكير والتشكك حول ما نقوم بتعليمه وتعلمه.

كي لا أطيل أكثر، وقبل تقديم اقتراح متواضع، دعوني أعدد بعض الأسباب الأخرى للهيمنة على أمل أن نتمكن من خلخلتها. الضغط من الجماعات البحثية باتجاه النشر بالإنجليزية التي لا زلت أجاهد في الكتابة بها وتوضيح أفكاري بشكل "يقبله" المحررون ودور النشر. في احدى المرات، طلب مني تبرير لماذا أجري بحثي في فلسطين! وهناك ضغط من جامعتي بالنشر بالإنجليزية من أجل الترقية الأكاديمية. (آمل ألا يفهم بأني أطالب بوقف النشر!) لن أتعرض كثيراً الى النشر العربي الذي يحتاج الى نقاش مجتمعي جدي. طبعاً أصف هنا الوضع العام مع وجود استثناءات جدية خاصة في العلوم الاجتماعية رغم الملاحظات هنا وهناك. ربما من المثير هنا التعرف على وضع اللغة العربية وتعليمها وتعلمها والخطاب السائد حول ذلك. 

أخيراً، أقترح التفكير في مساق متعدد التخصصات كمتطلب جامعي نتناول فيه اسهامات العلماء العرب أو العلم المنتج باللغة العربية بحيث يضم العديد من التخصصات في الجامعة مثل: الفلسفة، الفيزياء، الفنون، الموسيقى، الرياضيات، الكيمياء، علم الاجتماع، الأحياء، علم الحاسوب، الهندسة، الطب، اللغة العربية، الخ. كما يمكن تطوير ذلك المساق في الكليات أو في كل تخصص. مثلاً، يمكن تناول اسهامات العلماء العرب والمسلمين في العلوم أو في الرياضيات بشكل خاص، وقد يكون ذلك عبر قراءات في مساقات ذات علاقة أو مساق خاص. الفكرة إثارة هذه المواضيع والتفكير فيها. لا يزال العالم منشغل بالبحث ومحاولة الإحاطة بتلك الفترة الزمنية الطويلة عندما كانت العربية لغة انتاج المعرفة. لاحظوا حركة التعلم التي قد تحدث في الجامعة ما بين أساتذة وطلبة يرغبون في تعلم موضوع سوية – نعم سوية، وهنا نكسر ليس فقط هيمنة المعرفة الأوروبية على تفكيرنا وتعليمنا وتعلمنا، بل وهيمنة فكرة أن الأستاذ يمتلك المعرفة ويريد تزويد الطلبة بها. لنتخيل أثر ذلك على تقييم الأساتذة لأداء الطلبة. لنتخيل!