قراءة قانونية في القرار الصادر عن الرئيس بخصوص انتداب القضاة

صدر قرار عن الرئيس بتاريخ 14/6/2020م، بندب عشرة قضاة للقيام بأعمال قانونية في مؤسسات الدولة المختلفة،

وبما أنه يُعد الأول من نوعه بما يحتوي من مضامنين قانونية لا سابق لها في الواقع القضائي الفلسطيني، فإنني أود أن أسترعي الانتباه وبتحليل قانوني بحت وبمحاكاة القرار الرئاسي الصادر على ضوء التشريعات السارية ذات الصلة، وبعيدًا عن الآراء المؤيدة والمعارضة للقرار إلى ستة قضايا جوهريه تتصل به، أوضحها على النحو الآتي:

القضية الأولى:

إن نص المادة 23 فقرة 3 من قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002م، أجاز ندب القاضي مؤقتًا بقرار من وزير العدل بعد موافقة رئيس مجلس القضاء الأعلى، وذلك للقيام بأعمال قضائية غير عمله أو بالاضافة إليه أو القيام بأعمال قانونية متى اقتضت ذلك مصلحة وطنية، وهذا النص يعكس تنظيم تشريعي دقيق المعاني ومحدد الدلالات، ولكن ما تضمنته ديباجة قرار الرئيس من إشارة لهذا النص أدى إلى بروز العديد من الإشكالات في الصياغة والمضمون وإثارة عدد من التساؤلات، منها ما يأتي:

  1. إذا كانت المادة (23/3) من قانون السلطة القضائية، قد منحت وزير العدل سلطة إصدار قرار الندب بعد موافقة رئيس مجلس القضاء الأعلى، فما الداعي لصدور قرار من الرئيس بالندب إذا كانا (وزير العدل والمجلس الانتقالي) يملكان هذه الصلاحية؟ قد يكون الجواب بأن المرسوم جاء بناءً على الصلاحيات الممنوحة لمجلس القضاء الأعلى الانتقالي في المادة (2/3) من القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م بشأن تشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي، ولكن هذه الفقرة يختلف مضمونها القانوني عن مضمون المادة (23/3) من قانون السلطة القضائية، حيث جاء فيها أن للمجلس الانتقالي التنسيب بعزل أي قاضٍ وفقًا لأحكام قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م، أو إحالته للتقاعد المبكر أو ندبه لوظيفة أخرى وفقًا للقانون. والملاحظ هنا أن القرار بقانون فرّق بين العزل وأخضعه لأحكام قانون السلطة القضائية، وبين الاحالة للتقاعد المبكر والندب وأخضعمها للقانون، فأي قانون هو المقصود؟ هل المقصود قانون السلطة القضائية، أم القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م؟ أعتقد أن المقصود القرار بقانون وليس قانون السلطة القضائية لأن المشرع لو أراد ذلك لنص عليه صراحة كما فعل بالنسبة للعزل، وهو ما يفسر لنا سبب صدور الندب بقرار من الرئيس، وليس بقرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، ولكن تبقى الإشكالية قائمة في إشراك وزير العدل بالموضوع، إذ كان بالامكان الاكتفاء بتنسب مجلس القضاء الأعلى الانتقالي للرئيس سندا لما ورد في القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م، دون الحاجة إلى قرار من وزير العدل وفقا لأحكام قانون السلطة القضائية، لاسيما وأن المرسوم ينسجم في مضمونه مع القرار بقانون وليس مع قانون السلطة القضائية الذي وردت فيه كلمة " الندب" بدلالات تختلف عن الدلالات التي وردت في القرار بقانون، فضلا عن أن الشرط المطلوب للندب كما نصت عليه المادة (2/3) من القرار بقانون هو المساس ممن تم ندبهم بهيبة القضاء ومكانته وثقة الجمهور به، وهذا على خلاف ما ورد في المادة (26/2) من قانون السلطة القضائية التي جاء الندب فيها بمعنى ايجابي، وذلك بنصها على أن الندب لا يجوز إلا إذا كان القاضي الذي تم ندبه قد أمضى السنوات الأربعة السابقة في عمله بدوائر المحاكم واستوفى تقارير الكفاية، ألا يعني ذلك أن الندب لا يستحقه إلا القاضي المشهود له بالكفاءة ويحظى بثقة الجمهور؟ ألا يؤكد ذلك على أن دلالات ومعاني الندب الواردة في  قانون السلطة القضائية تختلف عن دلالات ومعاني الندب الواردة في القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م؟ لذلك كان حري بالقرار الرئاسي أن يستند على القرار بقانون لوحده كونه ينسجم مع الغاية المتوخاة من وراء الندب.
     
  2. الأصل وفق المادة (23/3) من قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م أن يكون الندب مؤقتًا، وحسب المادة (26/2) من ذات القانون لا يجوز أن تزيد مدة الندب عن ثلاث سنوات متصلة إلا إذا اقتضت ذلك مصلحة وطنية، كما أن المعمول به وفي قرارات ندب فردية سابقة لبعض القضاة أن القاضي المنتدب يبقى محتفظًا بصفته وحقوقه وامتيازاته بما فيها الترقية حال استحقاقها خلال فترة الندب، ولكن الملاحظ أن المرسوم جاء خلوًا من تحديد مدة الندب ولم يبين حقوق وامتيازات من تم ندبهم خلال مدة الندب، وهذا يؤكد مرة أخرى على أن الندب تم وفقًا للقرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م، وليس وفقًا لمقتضيات قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م.
     
  3. واضح من نص المادة (23/1) من قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م أنه لا يجوز نقل القضاة أو ندبهم لغير الجلوس للقضاء إلا برضائهم، ومع تفهمنا للاستثناء الوارد في الفقرة (3) إلا أن تساؤلات مشروعة تبقى قائمة، وهي: هل تم إبلاغ من تم ندبهم من القضاة بأسباب الندب ودوافعه ومبرراته؟ ما هي الحالات الاستثنائية التي اقتضتها المصلحة الوطنية وأجازت ندب عشرة قضاة دون موافقتهم؟ هل تستمر حقوق وامتيازات من تم ندبهم كباقي نظرائهم في القضاء من حيث العلاوات والترقية؟ هل هذا الندب نهائي؟ وهل يعني انتدابهم ان هناك استغناء عن عملهم في السلك القضائي ولا يمكن أن يتم تعيين أو ترقيه بدلاً عنهم مما يضاعف من الأثر المالي للقرار الرئاسي؟. في الواقع يبدو أن القرار الرئاسي ترك الباب مفتوحًا لكثير من التحليلات والتساؤلات التي تثور عند معظم المهتمين بالشأن القضائي وتحتاج إلى إجابات عليها.

القضية الثانية:

 لقد أثر غياب الوضوح في التعبير عن الكلمات والمصطلحات القانونية في القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م، في عدم دقة المعايير والأسباب التي على أساسها يتم الندب؛ إذ يلتبس فهم مضمونها ومعناها مع الدلالات المستقرة لها في قانون السلطة القضائية، كما هو الحال بالنسبة لكلمة " الندب"، فهي تحمل معنى الثواب في قانون السلطة القضائية والعقاب في القرار بقانون.

إن القرار الرئاسي بندب القضاة للقيام بأعمال قانونية في مؤسسات الدولة جاء مبهمًا وغير واضح المعالم والحدود، وأن عبارة " مؤسسات الدولة" جاءت بشكل مسترسل دون أن توضح على سبيل التحديد أيٍ من مؤسسات الدولة هو المقصود....

القضية الثالثة:

يُشكل إنتداب القضاة على هذا النحو هدرًا للمال العام، حيث إن هؤلاء القضاة قد عينوا ليقوموا بدور القاضي وليس بدور المستشار القانوني أو موظفين قانونيين في مؤسسات الدوله المختلفة، والتي بإمكان موظفين قانونيين بتكلفه أقل القيام بهذا العمل، إلاّ إذا كان المقصود من مصطلح " وفقًا للقانون" الوارد في المادة (2/3) من القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م، هو القرار بقانون ذاته، وفي هذه الحالة فإن الأمر يستدعي توضيح المركز الوظيفي الجديد للقاضي المنتدب من حيث الدرجة ومقدار الراتب والعلاوات، خصوصًا وأن المادة (2) من القرار الرئاسي الصادر بتاريخ 14/6/2020 قد كلفت ديوان الموظفين العام بالتنسيق مع الامانة العامة لمجلس الوزراء بتنفيذ أحكام هذا القرار، مما يوحي أن المقصود ليس قانون السلطة القضائية، لأنه لو كان المقصود الأخير( قانون السلطة القضائية) لما احتاج القرار الرئاسي لبيان الجهات المكلفة بتنفيذ هذا القرار، بالنظر إلى أن قانون السلطة القضانية واضح في هذا الشأن. وبالتالي فإن المركز الوظيفي للقضاة المنتدبين غير محدد ويحتاج إلى توضيح، من حيث بيان مثلا هل يحتفظ القاضي المنتدب بدرجته القضائية، وهل يتمتع بالامتيازات الممنوحة له قبل الندب؟ 

القضية الرابعة:

جاء نص المادة (3/2) من القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م لمعالجة حالات تتعلق بمخالفات مسلكية من القضاة لا ترقى لمستوى الجرائم، أو بأمور ذات صلة بعدم الكفاءة والفاعلية في الأداء وتنمية القدرات وتطوير الأدوات من بعض القضاة، أما فيما يتعلق بالجرائم بشكل عام فكل القوانين ذات الصلة نظمتها بشكل واضح لكل الموظفين العموميين، وفي حال كان هناك بعض شبهات ارتكاب جرائم، فتقتضي العدالة إحالتهم للجهات المختصة للتحقيق واتخاذ المقتضى القانوني.

القضية الخامسة:

إن القرار الرئاسي بندب القضاة للقيام بأعمال قانونية في مؤسسات الدولة جاء مبهمًا وغير واضح المعالم والحدود، وأن عبارة " مؤسسات الدولة" جاءت بشكل مسترسل دون أن توضح على سبيل التحديد أيٍ من مؤسسات الدولة هو المقصود، إذ يجب أن يكون قرار الندب مستكملاً لكافة المتطلبات القانونية الواجب توفرها فيه دون الاحالة بشأن ذلك إلى تكليف ديوان الموظفين العام للبحث عن أي من مؤسسات الدولة هو المقصود، ذلك أن من المبادىء التي استقر عليها الفقه والقضاء الإداري المقارن أن نقل الموظف أو ندبه إلى إحدى مؤسسات الدولة دون تحديدها على وجه الدقة ودون تحديد المركز الوظيفي للموظف المنقول أو المنتدب ينطوي على قرينة مفادها بأن قرار الانتداب جاء كعقوبة تأديبية مقنّعة، مما يشوبه بعيب الانحراف في استعمال السلطة.

القضية السادسة:

يكمن الهدف من تعيين أو ترقيه هؤلاء القضاة في تعزيز دور وأداء قطاع العدالة ورفد الجهاز القضائي بكوادر قضائية قادرة على النهوض به، ولعلَّ انتدابهم بهذا العدد للعمل في غير ما عينوا من أجله يضع تساؤلا حول الهدف من تعيينهم بالأصل، لاسيما وأن بعضهم تم ترقيته منذ أمد ليس ببعيد، ذلك أن الحديث يدور دائمًا في إطار قطاع العدالة على وجود مشكلة الاختناق القضائي وتراكم في القضايا وإطالة أمد التقاضي، ويعزى أحد أسباب هذه المشكلة إلى النقص الحاصل في عدد القضاة، وأن الأمر يتطلب تعيين المزيد من القضاة لتجاوز هذا الإشكال، فكيف يتم التوفيق بين ما جاء في قرار الندب وبين حاجة السلطة القضائية وبشكل شبه مستمر إلى المزيد من القضاة؟

عطفًا على ما سبق، وبما أن مطلع المادة (2) من القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019 قد نصت صراحة على أن من أهداف مجلس القضاء الأعلى الانتقالي إصلاح وتطوير السلطة القضائية والنيابة العامة، وبما أن الهدف من وراء القرار الرئاسي بالندب يأتي في جهود الإصلاح داخل الجهاز القضائي، فلا بُدّ من أن تُسهم الاجراءات المتبعة في الاصلاح في تكريس المحافظة على الطاقات الوطنية، وتعزيز حالة الطمأنية في أوساط القضاة.

إن وجود لوائح وإجراءات معلنة ولجان مهنية متخصصة في التعيين والنقل والندب مسألة في غاية الأهمية لعدالة التقييم ومراعاة قيم العدالة، تلك القيم التي ستُسهم في تجويد معايير النقل والندب وتصحيح إجراءاتها بما يخدم تطلعاتنا إلى الارتقاء بالمستوى القضائي على النحو المطلوب....

إنَّ تحقيق الانسجام في النصوص التشريعية وإزالة ما يعتري بها من قصور وتناقض في بنيتها وخاصة بين قانون السلطة القضائية والقرار بقانون رقم (17) لسنة 2020م أمرًا لا بُدّ منه، كما أن وجود لوائح وإجراءات معلنة ولجان مهنية متخصصة في التعيين والنقل والندب مسألة في غاية الأهمية لعدالة التقييم ومراعاة قيم العدالة، تلك القيم التي ستُسهم في تجويد معايير النقل والندب وتصحيح إجراءاتها بما يخدم تطلعاتنا إلى الارتقاء بالمستوى القضائي على النحو المطلوب، خصوصاً أن التشريعات الناظمة للسلك القضائي تتضمن قواعد عامة ومجردة، وبالتالي من حق القاضي المنتدب والقاضي الذي ما زال على رأس عمله أن يعلم بالمعايير التي على أساسها يتم الانتداب حتى يكون جميع  القضاة على بصيرة  من أمرهم، وفيما إذا كانت هذه المعايير تنطبق عليهم أم لا.