جامعة بيرزيت ..وتجارب في التأريخ الشفوي

التأريخ الشفوي لفترة زمنية محددة يسطر تفاصيل هذه الفترة، ويصورها بصدق وعفوية بطريقة تميزه عن التاريخ الرسمي، والذي عادة يوثقه المتنفذين في السلطة من اجل إثبات واقع معين له دلالاته الخاصة، والتجارب التي بين أيدينا سطرت واقعا لفترة زمنية محددة وهي فترة الأربعينيات من هذا القرن سواء التي تتعلق بالأهالي الفلسطينيين المهجرين من قراهم عام 1948، أو تذكرات الأشخاص الذين عايشوا فترة الأربعينات وأثروا في سير التاريخ من حيث الإسهامات في نواحي متعددة.

التجربة الأولى: توثيق القرى المدمرة

كانت التجربة الاولى حول توثيق القرى المدمرة وهذا مشروع كبير ومهم جدا أعده د. شريف كناعنة ونفذه فريق عمل مكون من: رشاد المدني، بسام الكعبي، نهاد زيتاوي، آسيا نور الدين، ولبنى عبد الهادي.

لقد رأينا (نحن الفريق) هذا العمل بمثابة مهمة وطنية علينا تأديتها وإطلاقها من مركز ابحاث جامعة بيرزيت تحت إشراف د. كناعنة، ونظرنا الى هذا المشروع بعين الفخر والاعتزاز على أننا الفريق الأول الفلسطيني الذي يبدأ بإنجاز مشروع من هذا النوع. وكانت رؤيانا هذه نابعة   بحماس لصالح توثيق المعلومات للأجيال القادمة. وكانت تجربتنا غنية جدا وعظيمة.

هذا المشروع عني بالتوثيق الشفوي لروايات الأهالي المهجرين من قراهم عام 1948، وتجميع هذه الروايات ومن ثم الإعداد لكتيبات تشتمل على صور ومعلومات لكل قرية مهجرة، بالإضافة إلى شرح عن وضع القرية في الأربعينيات قبل التهجير من نواحي عديدة كالوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

يقال، أن الحركات الاجتماعية التي نشأت حديثا تظهر تاريخ المقهورين، من الفئات المختلفة، نساء وفقراء، وعمال، وانا أقول ان البحث الشفوي في تاريخ القرى التي دمرت عام 1948 والتوثيق الشفوي لروايات المهجرين هي تاريخ المقهورين من الشعب الفلسطيني.

وكان الاستماع إلى تاريخ المقهورين من أبناء الشعب الفلسطيني المهجّرين قد افاد في توثيق ما حصل، كما نجحت الصهيونية في توثيق قصص النازية ومعاملتهم لليهود، وقاموا بنشر ذلك عالميا وعلى مستويات واسعة، وقد اهتموا بالتوثيق بشكل كبير وساعدهم هذا على إعلاء صوتهم في العالم. لو أننا منذ البداية وثقنا جميع ما حدث على صعيد الأحداث اليومية إبان عام 1948 وما تلى ذلك من أحداث، ووثقنا بالطريقة الشفوية وبالاستماع الى الروايات وليس عن طريق تسجيل التاريخ والقصص والأخبار من النخبة المتنفّذة، لكان صوتنا مسموعا أكثر.

وهنا، أود دعوة الطلبة في جميع أرجاء الجامعات الفلسطينية لتسجيل يومياتهم خصوصا أننا نعيش في أوقات صعبة ودقيقة، ومن المهم جدا تسجيل اليوميات فهي عبارة عن توثيق حقيقي لكل ما يدور في الوقت الراهن من أحداث.

بدأت تجربتي الأولى بتوثيق روايات أهالي قرية "سلمة " المدمرة. وكان شعور الأهالي الذين قابلناهم قويا جدا لدعم الحديث حول القرية وذكرياتهم فيها. وكانوا يصفون قريتهم بسلمة " الباسلة" وهذا ما لاحظته عند الكثير من المجموعات الذين قابلناهم، وكانوا يصفون الكثير من البطولات والتضحيات التي عايشوها إبان حرب عام 1948 وضد المستوطنات القريبة منهم في ذلك الوقت.

التاريخ المحكي قد يكون صادقا في بعض الأحيان وقد يكون مبالغا فيه في أحيان اخرى، كما حصل مع أهالي قرية "سلمة" إذ أنهم وصفوا البطولات بكثير من المبالغة، وكان علينا كباحثيين ان نتحرّى الحقيقة فعمدنا إلى إجراء مقابلات مع أهالي قرية مجاورة لقرية سلمة، وهي قرية العباسية وذلك للتأكد من صدق روايات اهالي سلمة حول التضحيات والبطولات الخيالية التي قام بها الاهالي في ذلك الوقت. وفعلا تبين ان هناك مبالغة في كثير من القصص والروايات.

خارطة فلسطين وتظهر فيها القرى المهجرة والمدمرة في عام 1948. إعداد: د. سلمان أبو ستة.

تجربة اخرى مع توثيق روايات قرية أبو كشك البدوية. توثيق لروايات أسعدتني وأمتعتني كثيرا، من حيث أنها قصص تعكس الواقع الإجتماعي البدوي في ذلك الوقت، وفي الوقت نفسه تعطي صورة عن احتلال القرية وتشريد أهلها. وأعتقد ان هذا الكتاب يصلح ان يكون سيناريو لرواية تلفزيونية بدوية او فيلم سينمائي بدوي.

طبعا كنا نحصل على وثائق كثيرة عن "كواشين اراض" كان يمتلكها اهالي القرى المهجرة، وعلى وثائق جوازات سفر فلسطينية، بعض من أهالي قرية سلمة أعطاني تذاكر سفر قديمة لباصات سلمة التي كانت تعمل عام 1948. 

اكتسب الباحثين في هذا المجال ما يلي:

  • ضرورة تسجيل أحداث او معلومات كما جرى في حقب معينة حتى ‘يستكشف و‘يوثق تاريخ الجماعات المنتهك حقوقهم.
  • الخبرة العملية في كيفية الحديث الشفوي مع الناس وسماع قصصهم ورواياتهم، ومن ثم التأسيس لمنهج في المقابلات الشفوية.
  • إعادة كتابة التاريخ من جديد من أفواه الذين هجروا من القرى عام 1948 وليس من الكتب الرسمية.
  • التعرف على تقنيات المنهج الشفوي من حيث إجراء المقابلات والتسجيل وتفريغ المعلومات، ثم التحقق من الروايات وإعداد كتيبات وصياغتها لتكون مرجعا شفويا للباحثين.

صفحات من الذاكرة الفلسطينية:

  بدأت تجربتي في صيف عام1991 عندما تم بلورة اقتراح من قبل د. علي الجرباوي أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في الجامعة لجمع تذكرات أشخاص، وقمت بتنفيذ هذا العمل مع فريق عمل مكون من: معاوية الخطيب(صحفي)، عبد الرحيم المدور (باحث) م، ونهاد زيتاوي(باحثة). وبسام الكعبي (باحث)، وكانت فكرة المشروع تتمحور حول ضرورة توثيق تذكرات الأشخاص الذين عاصروا فترات زمنية محددة وعاصروا أحداثا معينة تدل على تاريخ تلك الحقبة من الزمن، وكان لهم تأثير على مجريات الأحداث والتاريخ او أسهموا في بعض المجالات، او الذين لديهم معلومات عن أجدادهم لم يوثقها التاريخ الرسمي، ولست أعني هنا تاريخ النخبة المتنفذة او المتسلطة بقدر ما أعنى النخبة التي تنتمي (الى الفئة المتعلمة تعليما وسطا) والذين أثروا تأثيرا حقيقيا على مجريات الأحداث.

كان الهدف ايضا إعادة كتابة التاريخ عبر تسجيل الروايات الشفوية لأشخاص عاصروا فترة زمنية معينة. وتجميع قطع من التذكّرات لتكون في مجموعها قطعا فسيفسائية لكثير من المعلومات التاريخية في التربية والاقتصاد والطب والسياسة والاجتماع.

بدأت بإجراء المقابلات مع السيد ابراهيم صنوبر (85 عاما) مدير دائرة المعارف العربية في القدس عام 1942، من مواليد مدينة نابلس، وكانت تجربة ممتعة في تسجيل رواياته الشفوية حول أوضاع مدينة نابلس والأوضاع التربوية في فلسطين في ذلك الوقت. أسهم ابراهيم صنوبر بمعاصرته للإنتداب البريطاني والعهد الملكي الأردني (وأواخر العهد التركي، كان عمره ثلاثة عشرة سنة) بإغناء التذكرات بمعلومات حول الأوضاع التربوية وأوضاع المدارس العربية في فلسطين في ذلك الوقت، ولا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع الأشخاص المسؤولين في الانتداب البريطاني، ثم العلاقة مع المسؤولين الأردنيين في الخمسينات والستينات.  وإغناء التربية في فلسطين بمناهج تربوية تعليمية قام هو بإعدادها للصفوف الابتدائية.

كان الكتاب الثاني حول تذكرات يسره صلاح من مدينة نابلس، كان لها إسهاماتها ايضا في مجال التربية والتعليم حيث عملت كموجه لتربية نابلس في الخمسينيات والستينيات.

في الواقع كنت آمل من خلال تجربتي مع امرأة ان أوفَق في تسجيل أوضاع النساء في الاربعينات من ذلك العصر. ولكنني لم أوفق في مهمتي. حيث ان تذكرات يسرى صلاح لم تغن هذا الجانب كثيرا، وإنما انحصرت في تقديم معلومات حول المدارس في نابلس وفترة عام 1967 والاحتلال الاسرائيلي للمدن الفلسطينية وما رافق ذلك من شعور محبط للكثير من الأهالي ولا سيما النساء الوطنيات. ولكنها تميزت بأنها عكست واقع النساء من حيث التعليم والفرص القليلة التي كانت تنالها الفتاة من أجل السفر للخارج وإكمال تعليمها، فكانت يسرى صلاح أول فتاة من مدينة نابلس أكملت تعليمها في الجامعة الأمريكية في بيروت.

هذه التذكرات ليسره صلاح أثرت بي كثيرا من حيث قدرة هذه المرأة على تخطي الحواجز الكبيرة التي كانت تقف عائقا في سبيل تعليمها ووقوفها امام العادات والتقاليد السائدة، لتعبر عن رأيها في مجال إكمال تعليمها (وصفتها في التذكرات بأنها قفزت من فوق السياج)، وبروزها في ميدان التربية والتوجيه وإكساب المعرفة للعديد من تلميذاتها وتأثيرها عليهن. لا أزال اذكر عند تخرجي من المدرسة العائشية في نابلس أهمية وتأثير يسره صلاح على هذه المدرسة وحديث الناس في المدينة كبارا وصغارا حول مساهمة يسره في التثقيف والتعليم في المدينة.

وحول أوضاع فلسطين حيفا ويافا وعكا والمدن الساحلية وأوضاع الأراضي الفلسطينية واقتسامها من قبل الانتداب البريطاني مع أصحابها الأصليين، والعلاقة مع الانتداب البريطاني أجريت تذكرات رشيد عرنكي من بلدة بيرزيت حيث كان يعمل مساحا للأراضي في تلك المدن الفلسطينية في الثلاثينات والأربعينات.

التجربة التي أمتعتني كثيرا هي مقابلاتي للسيد طلعت حرب، الذي كان عضوا نشيطا في الحزب الشيوعي الفلسطيني إبان الوصاية الأردنية على فلسطين وكانت تذكراته عبارة عن تاريخ الأحزاب في ذلك الوقت والعلاقة مع النظام الأردني والاعتقالات السياسية التي كانت تتم لمناضلي الحزب.

أعتقد ان فكرة التذكرات فكرة رائدة إذا ما توفر لها الدعم اللازم من المؤسسات والمجتمع والأفراد بالإضافة إلى تعزيز الوعي بأهمية إعادة التاريخ من خلال تذكرات الأشخاص.