أيامي في بيرزيت

وصلت إلى بوابة الحرم القديم لجامعة بيرزيت بعد ظهر أحد الأيام الحارة في شهر تموز 1983، مثقلاً بحقيبتّي سفر وحقيبة ظهر، وكنت جاهزاً للبدء بتنفيذ عقد لمدة سنتين للتدريس كأستاذ زائر لمادة التاريخ. وأكثر ما يحضر ذاكرتي من الحرم القديم هو تشابك وازدحام ممرات الدخول والخروج إلى المكاتب الرئيسية، والمكتبة، والملعب الخارجي لكرة السلة وصفّا المقاعد المثبتان بمحاذاة أحد الجدران. وكان المطبخ قريباً من الساحة، حتى أن رائحة الطعام القوية كانت تعلن على الطالب والهيئة التدريسية عن الغداء قبل الإستراحة بوقت طويل. وكانت صالة الطعام تعج بالحركة، فكانت مسرحاً للكثير من النقاشات الحادة حيناً أو لموجات من المزاح والضحك أحياناً.

كان مكتبي يقع في الجهة المقابلة للشارع الرئيسي في القرية، في بيت غير مفروش تم تحويله على يد نافذ نزال إلى دائرة دراسات الشرق الأوسط. ولم أكن الأستاذ "الزائر" الوحيد، بل كان معي واصف عبوشي، الذي كان في إجازة من جامعة سينسيناتي، بينما كانت إصلاح جاد قد انضمت إلى الهيئة التدريسية لتوها.

وسرعان ما أوقع الواقع المرير للعيش والعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة الفوضى في الروتين اليومي للتدريس، مع تزايد الإغلاقات المفروضة على الجامعة وقيام الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار في بعض الأحيان على طلابنا خلال المواجهات. علاوة على ذلك، فقد جرى التحقيق مع عشرين من أعضاء الهيئة التدريسية ثم توقيفهم خلال الفصل الأول بسبب رفضهم التوقيع على ما سمي "صك الولاء" الذي حاول المسؤولون العسكريون الإسرائيليون فرضه استناداً إلى الأمر العسكري رقم 854.

لقد شاهدت بأم عيني عشرين من أعضاء الهيئة التدريسية يؤخذون إلى مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في رام الله الذي كان يقع مقابل منزل حنان عشراوي، حيث قام بعض الأساتذة والطلاب بزيارة "الموقوفين" في مقر الشرطة في رام الله والسجن التابع له الذي كان يقع بالقرب من مدرسة الفرندز للصبيان. وقد أدت الإغلاقات المتكررة، ومقتل عدد من طلاب الجامعة وتوقيف أعضاء الهيئة التدريسية بشكل مؤقت إلى تمديد الفصل الأول عدة مرات، حتى أنه لم ينته لغاية آذار 1984.

وقد طلب مني في الفصل الأول تدريس مساق في المسوح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما درست حلقة بحث حول التأريخ، وهي إحدى المتطلبات الرئيسية لتخصص التاريخ. أما حلقة البحث حول "التاريخ الشفوي للقرى الفلسطينية"، فقد ساعدني في هذه المادة ضيوف كرام مثل ألبرت جلوك من دائرة الآثار، وسليم تماري من علم الاجتماع، وسعاد العامري من الهندسة المعمارية وكمال عبد الفتاح من الجغرافية.

في ربيع 1984، طلب مني جابي برامكي، رئيس الجامعة بالوكالة، إجراء مشروع بحثي تحت عنوان "اللاجئون كضحايا وأسباب للصراع"، وأن أعرض نتائج البحث في "مؤتمر باغواش" المنعقد في البندقية في تموز 1984. وقمت مع كل من إميل ساحلية وطالبي في الدراسات العليا عثمان شركس وعادل يحيى بصياغة استبيان لاستخدامه في استطلاع آراء لعينات من اللاجئين في خمسة عشر مخيماً في الضفة الغربية. وقام عثمان وعادل بتنفيذ البحث، وإجراء المقابلات مع حوالي ثلاثمائة لاجئ، ثم قمنا جميعاً بكتابة الورقة. وفي تموز، توجهت مع عادل إلى البندقية، حيث قمنا بتقديم عرض ناجح ترافقه الشرائح التي تعرض لنتائج البحث.

وبعد انتهاء الفصل الثاني الذي كان قصيراً، وعطلة الصيف التي تم اختصارها، بدأ الفصل الأول في السنة التالية بكثير من الحماسة المتقدة لدى الجميع. فالحرم الجامعي الجديد كان قد بدأ آنذاك بالنمو فوق التلال المشرفة التي تقع على بعد حوالي كيلومترين إلى الجنوب من قرية بيرزيت. وكانت كليات إدارة الأعمال، والعلوم، والهندسة قد بدأت بنقل التدريس، والمكاتب والمختبرات إلى الحرم الجديد. في تلك الأثناء، كانت دائرة دراسات الشرق الأوسط في الحرم القديم، قد أصبحت دائرة التاريخ، وكانت تقدم برامج في الجغرافية والعلوم السياسية أيضاً. ووجدت نفسي منهمكاً في العمل في مركز الأبحاث تحت إدارة كمال عبد الفتاح، الذي طلب من سليم تماري ومني التشارك في تأسيس وتحرير مجلة متخصصة في الأبحاث في الأراضي الفلسطينية المحتلة تصدر باللغتين العربية والإنجليزية. ومع نهاية الفصل الأول من عام 1984، صدر العدد الأول من مجلة بيرزيت للأبحاث Birzeit Research Review  وكان حول التربية، وتبرعت بتصميم الغلاف سعاد العامري. كما طلب مني كمال البدء بعقد سلسلة من الورشات تحت عنوان "تاريخ فلسطين الشفوي: النظريات والمناهج" لطاقم المركز المليء بالحماسة والنشاط. إلا أن النشاط الأبرز في الفصل الأول كان غرس الأشجار في يوم الأرض في السفح الفارغ الذي يقع داخل الحرم الجديد، وكان نشاطاً جيد التنظيم وناجحاً، حيث يمكن للزوار أن يشاهدوا نتائجه اليوم لدى دخول الجامعة. إن هذه الأشجار الباسقة إنما هي شهادة حية على الصمود، وعلى طبيعة بيرزيت، مؤسسة التعليم العالي العربية التي لها جذور ضاربة عميقاً في الأرض.

مع حلول الفصل الثاني من عام 1985، كانت المعنويات عالية بسبب فشل روابط القرى والأمر العسكري رقم 854 في تحقيق أهدافهما المتمثلة في تغلغل الأمن الإسرائيلي داخل القرى والمدارس والكليات والجامعات الخاصة الفلسطينية. كما بات واضحاً أن بيرزيت كانت على وشك إنهاء عام دراسي كامل وعملية تدريسية غير متقطعة للمرة الأولى منذ عدة سنوات. وكان جميع أعضاء الهيئة التدريسية تواقين لحضور حفل التخرج، وكانوا يشعرون أن المستقبل الأكاديمي لبيرزيت بات واعداً.

لقد كانت السنتان اللتان قضيتهما في بيرزيت من أكثر سنوات حياتي الأكاديمية إنتاجية ومن أكثرها قلقاً. لكنها كانت أيضاً من أفضلها بالنسبة لي كأكاديمي، وذلك بسبب الروح التي يتحلى بها الطالب والهيئة التدريسية، والروح الرفاقية الحميمة التي كانت سائدة بين الزملاء والإداريين، والشعور بالمشاركة في لحظات الفرح والحزن مع أولئك الفلسطينيين الشجعان، كباراً كانوا أم صغاراً، طلاباً كانوا أم أساتذة. منذ عام 1985، وأنا أعود كل صيف تقريباً إلى جامعة بيرزيت، إما لتدريس مساق للدراسات العليا، أو للعمل مع أحد الزملاء أو للقيام بأبحاث في التاريخ الشفوي.

يجدر بي القول أنني سأظل دائماً فخوراً ببيرزيت!