ما بعد قرار ترامب والعقل الاستشراقي

تتجلى معالم استشراقية في النظرة الأوروبية الأميركية للقضية الفلسطينية في الوقت الحالي أكثر مما مضى. وتتضمن هذه النظرة، الإصرار على رؤية الطرف الإسرائيلي مُحصنا ضد العقاب وضد وسمه بأنّه مجرم، كنتيجة لجرائمه، ويعود ذلك عملياً للشعور بوحدة عضوية مع هذا الكيان، ما يسمح بالنظر للفلسطينيين كطرف يمكن تعويضه أو مساعدته، لكن دون المس بمن يقوم بالجرائم والمخالفات ضده. تماماً كما تسرع عائلة لمعالجة تداعيات بلطجة وعبث أحد أفرادها بإسكات وإرضاء من يعتدي عليهم، مقابل عدم مس ابنهم قانونياً أو الرد على عنفه بالمثل. أو بمنطق آخر، الشعور بعضوية إسرائيل للغرب مقابل شرق ما بعد الاستعمار، الذي يمكن احتواؤه وتعويضه بالمال. 
يشكو فلسطينيون أكاديميون ودبلوماسيون من منطق خطاب بعض الدول الأوروبية معهم، خلال الأسابيع الفائتة، فبينما يتحدث الفلسطينيون كيف يمكن ويجب التصدي للسياسات الاسرائيلية، المتسارعة العدوانية، بعد قرارات الإدارة الأميركية والرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشأن القدس، فإنّهم يردون بالبحث عن "منفذ" للعودة للمفاوضات وللعملية السياسية. وفي أحسن الأحوال يسألون ما هو التعويض الذي يمكن تقديمه للفلسطينيين، مع رفض دول رئيسية حتى الاعتراف النظري بالدولة الفلسطينية. وهذا المنطق فيه معضلتان؛ الأولى، أنّ أكثر الحكومات الأوروبية "اعتدالا" تبنت بذلك اعتبار الطرف الإسرائيلي، الابن المدلل لها، العاق أحياناً، والذي تركض لإطفاء الحرائق التي يشعلها، دون حتى الطلب الجدي منه أن يتراجع. والمعضلة الثانية في حديث الأوروبيين عن العودة للوضع السالف، هي التعامل مع الفلسطينيين على أنهم متسولون ينتظرون مساعدات السيد الأبيض، وهذا الحق لا يصل للاعتراف بهم كشعب يحق له دولة يفرضها العالم. 
هذه النقطة الثانية (منطق المتسولين)، تبرز في قرارات ترامب، أيضاً، خفض أو إلغاء المساعدات المقدمة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والاختلاف الوحيد أنّ الطرف الأميركي، يستخدم المساعدات عصاً بوجه الضحية، يهدده بسحبها منه إذا لم يدر خده الآخر لصفعات القرن المتتالية، على يد الاستعمار الإسرائيلي. أمّا الأوروبيون فيستخدمون المساعدات، مؤقتا، باعتبارها جزرة، لإغراء الضحية بتلقي الصفعة بصمت، مقابل فتات، على أساس أنّ "الذي جرى قد جرى وانتهى ويجب تناسيه"، فلماذا لا يتم التنازل؟. ولكن إذا استمر غضب وألم الضحية، واستمر يتحدث كشعب يريد حقوقه عاجلاً، سيتم حينها تحويل المساعدات إلى عصا لأنّ استمرار الغضب والألم يشكل "معصية" لا تغتفر. 
وتستمر العقلية الاستشراقية، التي تنظر للآخر باعتباره أقل من أن يستحق حق تقرير المصير، ويجب أنّ يبقى خانعاً مطيعاً مقابل بعض الإحسان. فاستمرار وتصعيد الخطاب اللفظي للرئاسة الفلسطينية يصاحبه رد فعل من شقين، تلمحه في الصحف الأميركية والإسرائيلية وعلى لسان بعض المسؤولين. الشق الأول، أنّ الرئيس الفلسطيني لم يغضب بسبب قرار القدس، ولكن لأنّه جرى إبلاغه بخطة سلام تقل كثيراً عن تأسيس دولة مستقلة، كما قالت وسائل أنباء عبرية. وهذا التفسير مهم للإدارة الأميركية والإسرائيليين، لتحاشي الاعتراف بالخطأ، ولأنه يصعب الإقرار أنّ شيئاً يفعلونه يستدعي الغضب، خاصة أمرا له قيمة رمزية وهوياتية مثل القدس، ولا بد من سبب آخر. والشق الثاني، التشكيك بأن ينفذ الفلسطينيون أي تهديد أو تحذير يطلقونه، فالفلسطيني والعربي عموماً من وجهة نظر هؤلاء "السادة البيض" يغضب قليلا ولا يفعل شيئاً. وإن فعل فهذا ليس من حقه، وما يقوم به خرق "أحادي الجانب"، أو إرهاب، أما أحادية الجانب الإسرائيلية فلا يراها أحد، إلا هامشياً، وتُرفَض بِصوت مُنخفض، لفظياً، دون أي موقف مادي. 
حقق منطق الفدائي الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات احتراماً واعترافاً دوليّاً، أكثر من منطق الدبلوماسية والتفاهم. وهذا لا يعني إمكانية العودة للماضي، أو أنّ الفدائي والمقاومة والرفض في الطريق للتحرير وحق تقرير المصير، يجب أو يمكن أن تكون بذات الشكل القديم. ولكن فكرة المساعدات الغربية، وحتى المنظمات الدولية، وإن بدت مُفيدةً، وهي كذلك، فإنّها تنقل الأمر برمته لملعب سياسات ما بعد الاستعمار، ومنظوماتها للسيطرة، عبر المساعدات والدبلوماسية والمنظمات الدولية. أمّا الرفض والمقاومة وإيجاد قواعد تحرك جديدة، والاستغناء عن مساعدات الدول الراعية للاحتلال، والاستقلال الفردي والجمعي الشعبي، بجانب مخاطبة الشعوب، والمنظمات والشبكات العالمية، فهو ما سيجبر العالم على العودة للتفكير بالفلسطينيين كشعب.