"تمويل التعليم العالي في فلسطين بين الواقع والمأمول" بقلم: د. محمد أحمد شاهين

يثير موضوع تمويل التعليم جدلاً واسعاً في المجتمعات كافة، على اختلاف مستويات الدخل والمعيشة فيها، ويكثر هذا الجدل في ظل الارتفاع المتزايد لتكلفة التعليم في السنوات الأخيرة، خاصة التعليم العالي. ويلاحظ من جهة أخرى ازدياد ملحوظ ومطرد في نسبة الالتحاق بالتعليم العالي خلال السنوات العشرين الأخيرة، وينعكس ذلك على الاستقرار والتطور والدور لمؤسسات التعليم العالي، خاصة في الواقع الفلسطيني، إذ تكرر حدوث نزاع بين الطلبة وإدارات مؤسسات التعليم العالي تارة، وبين العاملين والإدارات تارة أخرى، ما أدى إلى تعطيل مسيرة التعليم أكثر من مرة في أكثر من مؤسسة تعليم عال، خاصة الجامعات، وكذلك كان الأثر السلبي ملموساً في أعداد الطلبة إلى أعداد أعضاء هيئة التدريس، وخطط التطوير، والبحث العلمي، وبالتالي جودة التعليم ومخرجاته. لذا فإنه لا بد من الاعتماد على موارد تمويلية واضحة ومستقرة، تضمن لمؤسسات التعليم العالي الفلسطينية الاستمرار في أدائها وتقدمها.
ويقصد بالتمويل للتعليم، إيجاد مصادر مالية قادرة على تغطية احتياجات المؤسسات التعليمية كاملة؛ حتى تتمكن من تحقيق أهدافها ورسالتها التربوية والبحثية الاقتصادية. ويقصد به في الإطار الشمولي مجموع الموارد المرصودة في إطار التعليم؛ لتحقيق الأهداف التي ينبغي تحقيقها بالموارد المتاحة، وإدارة هذه الموارد واستخدامها بكفاءة. ويعد موضوع التمويل من أعقد المشكلات التي يواجهها التعليم العالي وأكثرها إثارة للجدل، وهي قضية مطروحة في دول العالم كافة، وتتمثل في زيادة النفقات مقابل ندرة الموارد المالية. 
وتشير المقارنات بين معدلات توسع التعليم العالي والضغط الكمي، والزيادة المطردة في أعداد الملتحقين به، ونسب الارتفاع في المخصصات المالية المرصودة للتعليم العالي إلى تفاوت واضح بين المتغيرين، إذ كان الارتفاع في نسب التمويل محدوداً مقارنة بالارتفاع المطرد في نسب الالتحاق بالتعليم العالي خلال السنوات الأخيرة، خاصة في الدول العربية التي لديها موارد مالية محدودة، وعدم قدرة تلك الدول على تخصيص موارد إضافية لصالح التعليم.
ومن البديهي الاستنتاج أن الزيادة في نسب الالتحاق بالتعليم العالي خلال السنوات الأخيرة، والاهتمام بالجودة، سيتطلب تبعات مالية كبيرة، ما يستدعي إشراك المجتمع في تغطية جزء من تكاليف التعليم العالي من خلال الرسوم الدراسية، ودعم البحث العلمي، وتمويل صناديق خاصة بالتعليم بشكل عام أو بالطلبة في مؤسسات التعليم العالي بشكل خاص، أو من خلال مساهمات وتحمل تبعات من قبل الأفراد والمؤسسات بتنظيم من الدولة أو من خلالها.
وتشترك الدول العربية في اعتمادها على الدعم الحكومي  لتمويل التعليم العالي، مع تفاوت في نسب الدعم بحسب الأنظمة التعليمية السائدة في كل دولة. ويمكن تقسيم الدول العربية في هذا المجال إلى مجموعتين: 
المجموعة الأولى، وفيها تقوم الدولة بالدور الرئيس في تمويل التعليم العالي بحسب مقاييس ومعايير تخص كل بلد، وتدخل هذه التمويلات في إطار التحويلات الاجتماعية، ودون تحميل الطالب أي تكاليف مهما كانت خلفيته الاجتماعية، ودون شروط مسبقة مرتبطة بالمخرجات والنوعية، والاقتصار على توسيع الطاقة الاستيعابية لمؤسسات التعليم العالي، وتضم هذه المجموعة دول مجلس التعاون الخليجي، ودول المغرب العربي، ومصر. 
أما المجموعة الثانية، فيقوم فيها القطاع الخاص والمجتمع المدني بالدور الرئيس في تمويل التعليم العالي، وتضم هذه المجموعة لبنان والأردن وفلسطين. 
ويمكن أن نلاحظ أن السياسات التعليمية العربية قد نجحت في زيادة أعداد الملتحقين بالتعليم، ضمن إطار يمكن تسميته «بسباق الأرقام»، وبلوغ أهداف كمية دون مراعاة لمتطلبات النوعية، فتحولت المؤسسة التعليمية من مؤسسة نخبوية مقصورة على أبناء الأسر المحظوظة إلى مطمح لفئات المجتمع كافة، حتى الشعبية منها، وعلى الرغم من أن هذا النمو رغم أهميته في إطار زيادة رأس المال البشري، إلا أنه شكل تحدياً فعلياً، يتمثل في ضرورة أن يترافق مع هذا الطلب والإقبال الاجتماعي المتزايد على التعليم، الوفاء بمتطلبات الجودة، والمواءمة بين احتياجات التعليم والتحولات المعرفية المتسارعة. 
وتستند أنماط التمويل المعتمدة في جامعات الدول المتقدمة إلى الشراكة بين المؤسسة التعليمية والبيئة الاقتصادية والسياسية المحيطة بها، وتتعدد نسب التمويل والجهات الممولة من بلد إلى آخر بحسب النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد، ورغم أن الدولة تتدخل في دعم المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة في هذه الدول، إلا أن الاتجاه السائد فيها هو تقاسم التكاليف بين الجهات الرسمية والجامعية وهيئات المجتمع، مع تحميل الطالب جزءاً أو كامل تكاليف التعليم العالي. وتمثل بعض المصادر التمويلية مثل الوقف إيراداً لأغلب الجامعات العريقة.
ويمكن الاستنتاج من خلال نماذج التمويل في الدول العربية، أن هناك صعوبة في زيادة حصة التعليم من الموازنات العامة، أو زيادة الإنفاق على التعليم، في ضوء الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها معظم الدول العربية، فاتجهت السياسات إلى ترشيد الإنفاق، وتنويع مصادر التمويل. 
أما التجارب في الدول المتقدمة، فهي تجارب قد لا تكون مناسبة لكل البيئات الجامعية، خاصة في البيئة العربية، لاختلاف الظروف والتقاليد والسياسات، لكن هذه التجارب التي أثبت الكثير منها جدواه، يمكن الاستفادة منها في توسيع قاعدة التمويل للتعليم العالي، في ظل التوسع بالتعليم دون رصد مخصصات مالية موازية وملائمة.
ويساهم الوقف بنسب مهمة في تمويل التعليم العالي الخاص أو الحكومي في الدول التي تصنف على أنها ذات تقاليد جامعية متطورة، وينتشر مفهوم الوقف في الدول المتقدمة، وكذلك الصاعدة منها مثل تركيا، وضمن مفهوم تحمل جزء من تكاليف التعليم العالي وليس كمصدر إيرادات إضافي.
وأوضحت العديد من الدراسات أن التعليم العالي في فلسطين يعاني من مشكلتين أساسيتين مرتبطتين ببعضهما، تتعلق الأولى بالتمويل والأخرى بنوعية التعليم العالي؛ إذ إن مؤسسات التعليم العالي تواجه عجزاً في ميزانياتها، لكنها لا تستطيع زيادة إيراداتها من خلال رفع أقساط الطلبة كون المجتمع الفلسطيني مجتمعاً فقيراً لا يحتمل ارتفاعاً في أقساط التعليم، وهذا يؤدي إلى بقاء رواتب الهيئة التدريسية متدنية، وينتج عن ذلك هجرة الكفاءات من المؤسسات التعليمية إلى وظائف تؤمن إغراءات مادية أكبر، وبالتالي يؤثر هذا سلباً على نوعية التعليم العالي ويؤدي إلى فقدان الجامعات للطواقم التدريسية ذات الكفاءة العالية. 
وترجع الدراسات العجز المالي المتراكم للجامعات الفلسطينية إلى عدم وجود سياسة تمويل واضحة للتعليم العالي منذ نشأته؛ فالمعطيات تشير إلى تراكم عجز مالي لسنوات في الجامعات الفلسطينية، وعدم وجود استثمارات وعوائد ذاتية للجامعات، تضع قيوداً على المنح الداخلية التي تقدمها الجامعات، وتؤدي إلى إضرابات وتعليق دوام متكرر للعاملين في مطلع كل عام دراسي في معظم الجامعات الفلسطينية، مطالبين بعلاوات غلاء المعيشة وبتعويض عن التذبذب الكبير في أسعار صرف العملات، وكذلك احتكاكات بين الطلبة والإدارة في مطلع كل فصل دراسي في معظم الجامعات بسبب قيام إدارات الجامعات برفع الرسوم الدراسية، ومطالبة الطلبة بما عليهم من التزامات سابقة، كما أن عدد طلبة الجامعات يزداد سنوياً بنسبة تصل إلى أكثر من (20%)، ويزداد بالتالي عدد الطلبة المحتاجين نتيجة للواقع الاقتصادي وظروف الحصار، إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة، ناهيك عن الارتفاع الملحوظ في فاتورة التعليم العالي في فلسطين، وتبلغ ميزانيات الجامعات السنوية حوالى (200) مليون دولار، تمثل الرسوم الدراسية المصدر الرئيس لتمويلها، إضافة لمساعدات السلطة الوطنية المحدودة وغير المنتظمة باعتبارها لم تصرف منذ عدة سنوات. ويؤدي تأخر صرف مخصصات الجامعات إلى نقص وعجز دائم في تغطية مصاريف الجامعات يقدر بنحو (70) مليون دولار سنوياً، ما يؤكد حاجة التعليم العالي الفلسطيني إلى مصادر دعم مالي مستقرة وكافية. 
وفي ظل هذا الواقع، بادرت مؤسسات التعليم العالي غير الحكومية، وهي تشكل الأغلبية القصوى في قطاع التعليم العالي الفلسطيني إلى اتخاذ تدابير وإجراءات للتعامل مع الخلل بين الاحتياجات والمصروفات وتباين الإيرادات في موازناتها، التي كانت تراكم عجزاً على عجز بشكل مستمر. فقد لجأت الجامعات إلى فتح تخصصات جديدة، والتوسع في البرامج القائمة بغض النظر عن حاجة السوق، وقدراتها البشرية، سواء من حيث الكم أم النوع، ومارست بعض النظم التسويقية لزيادة أعداد طلبتها بهدف زيادة دخلها، وقبول أعداد كبيرة من الطلبة، حيث تضاعف العدد في بعض الجامعات خلال عامين أو ثلاثة، وبهدف زيادة الموارد المالية للجامعات، ودون أن يرافق ذلك زيادة في أعداد العاملين، خاصة أعضاء هيئة التدريس، واقتطاع نسبة من رواتب العاملين متأخرة إلى أجل غير مسمى في بعض الجامعات، وخفض موازنات بعض الأنشطة والمهام الموكلة بالمؤسسات التعليمية، وتحويل مراكز التعليم المستمر وخدمة المجتمع إلى مراكز ربحية تسهم في توفير موارد مالية لميزانية الجامعة، وقيام بعض الجامعات باستخدام مخصصات العاملين وتوفيراتهم لدى الجامعة لأغراض المصاريف الجارية وتسيير أمورها مؤقتاً، واستحداث مفهوم التعليم الموازي وفتح آفاق في مجال توفير موارد مالية ضمن مفهوم الجامعة المنتجة، والقيام بجهود منظمة لتوفير منح وهبات خارجية، خاصة في مجال دعم البنية التحتية أو التطوير، وأحياناً للميزانية العامة للمؤسسة.
وفي ضوء الواقع الفلسطيني والأزمة المالية الخانقة التي تعيشها مؤسسات التعليم العالي في فلسطين، وضمن الإمكانات والظروف الاقتصادية والواقع السكاني، واستناداً إلى بعض التجارب الإقليمية والعالمية في تمويل التعليم التي عرضت في الورقة، يمكن اقتراح آلية شاملة لتمويل التعليم العالي في فلسطين، تشمل جانبين رئيسين: 
الأول منها يتمثل في تنويع مصادر التمويل، لتشمل تطوير الدعم الحكومي، فمن الضروري رفع نسبة التمويل الحكومي إلى نسبة لا تقل عن (25%) من موارد التعليم العالي سنوياً، من خلال زيادة مخصصات وزارة التربية والتعليم العالي من النفقات الجارية لموازنة السلطة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي نسبة الإنفاق على التعليم العالي من مخصصات قطاع التعليم بشكل عام. ويمكن ربط مخصصات التعليم العالي بأداء الجامعات، استناداً إلى سياسة تعاقدية بين وزارة التربية والتعليم العالي والجامعات، تتضمن محاور ومعايير موضوعية ومحددة، وكذلك إنشاء صندوق وطني للتعليم العالي، له مصادر محددة ومستمرة، من خلال مساهمات واقتطاع نسب من الضرائب، والفواتير الشهرية، وأسعار السجائر، والمحروقات، وإيرادات البلديات والمجالس المحلية، ومساهمات البنوك والشركات، وتفعيل نظام الوقف، إذ إن التجارب العربية والعالمية في مجال نظام الوقف كمصدر في تمويل التعليم أثبتت فاعليتها وجدواها، فإن من المهم توفير آليات مناسبة للعمل بهذا النظام في فلسطين، لتمكين الجامعات من تمويل جزء من أنشطتها واحتياجاتها المالية. ولا بد من تطوير معادلة وطنية عادلة للرسوم الجامعية عبر حوار وطني شامل يقوده مجلس التعليم العالي، وتشارك فيه كل الأطراف، بما فيها ممثلو الطلبة، بحيث تغطى الرسوم حوالى 40% كحد أقصى من تمويل التعليم العالي، مقروناً باستفادة الطلبة من نظام خاص بالقروض والمنح التي يقدمها الصندوق الوطني للتعليم العالي في فلسطين بديلاً عن المنح التي تقدمها الجامعات وتستهلك جزءاً ليس بسيطاً من مدخولاتها، ويتفاوت من مؤسسة إلى أخرى، ما يحول دون وجود معيارية وعدالة عامة بين طلبة مؤسسات التعليم العالي في الحصول على المنح والمساعدات ومعاييرها. ويمكن أن تكون المعادلة مرتبطة بمتوسط الدخل في فلسطين، ومتوسط التكاليف للتعليم العالي، وغلاء المعيشة السنوي، والتخصص للطالب، والمستوى الدراسي. وكذلك تفعيل مفهوم الجامعة المنتجة، من خلال قيام الجامعة بممارسة بعض النشاطات، إضافة إلى مهامها الأساسية بهدف تحقيق بعض الموارد المالية لميزانية الجامعة، وإشراك القطاع الخاص في تمويل التعليم العالي، فدور القطاع الخاص يمكن أن يكون من خلال تخصيص جزء من أرباح مؤسسات القطاع الخاص، ومسؤوليته المجتمعية، ونظام الكراسي العلمية (التي تقوم على أساس تقديم منحة نقدية أو عينية يتبرع بها فرد ما أو مؤسسة لتمويل برنامج بحثي أو أكاديمي في المؤسسة التعليمية)، والشراكة مع المؤسسات التعليمية في استثمارات هادفة ومخططة.
أما الجانب الآخر للمقترح، فيتمثل في ترشيد النفقات، إذ تشير العديد من الدراسات إلى أن أحد الأسباب الرئيسة لأزمة التمويل في التعليم العالي مردها إلى عدم الاستثمار الأمثل للموارد المالية والبشرية المتاحة. وهذا لا يعني الترشيد ووقف الهدر في المال، إنما يعني أيضاً توظيف الكوادر البشرية المؤهلة وحسب الحاجة للمؤسسة التعليمية ضمن آلية شفافة موضوعية ومتوافقة مع المعايير العالمية ضمن الإمكانات والظروف، وهو قد يشمل أيضاً أن يكون تخصيص الموارد المالية حسب النتائج والأداء للمؤسسات التعليمية، وجودة مخرجاتها. كما أن الترشيد في الإنفاق يستدعي توظيف التقانة الحديثة بطريقة مرشدة وضمن رؤية واضحة تسهم في تقليص المصاريف وتوفير الموارد المالية من خلال تفعيل وتطوير طرق التحكم الإلكتروني، وانعكاسها المستقبلي على توفير الأبنية والمرافق اللازمة، والمساحات، والحدائق، كما أن توظيف التكنولوجيا يسهم في توفير مصاريف الورق والنسخ والطبع والبريد التي كلفتها نسبة عالية من نفقات المؤسسات التعليمية.

مقال نشر في صحيفة الأيام على الرابط التالي:

http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=11724978y292702584Y11724978