الدكتوراة وبناء المعرفة وجامعة بيرزيت

لا أزال أشعر بالفخر أنني خريج جامعة بيرزيت منذ أوائل التسعينات وأهمية وتأثير هذه الفترة في تشكيل تفكيري. وأنني الآن أحد أعضاء هيئتها التدريسية، خاصة أنها قد تكون الأولى عربياً التي تضع/وضعت معايير أخلاقيات البحث العلمي، وربما الأولى فلسطينياً التي تأخد انتحال الملكية الأدبية الأكاديمية على محمل الجد وتعاقب عليه لدرجة الفصل من الجامعة. من هذا الشعور بالفخر أتمنى على بيرزيت أن تفكر ملياً وأن تتريث قبل فتح برنامج الدكتوراة للعديد من الأسباب، أتناول بعضها باختصار: لا يخفى على أحد مدى تدنّي التعليم في فلسطين، سواء العام أو العالي وتركيزه على التلقين وضعف مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات لدى خريجيه. بكلمات أخرى، لا يشجع التعليم الفلسطيني على النقد والانخراط في نقاش أو حوار أكاديمي سواء بين أساتذة الجامعات المختلفة أو نفس الجامعة وحتى في نفس الكلية والدائرة الواحدة. برأيي، إن هذا الحوار والنقاش حيوي للغاية لتطوير برنامج دكتوراة ولطلبة الدكتوراة أنفسهم.زد على قلة الحوار والنقاش بين الأكاديميين، ندرة انخراط الأساتذة الأكاديميين في النشر في مجلات محكّمة عالمياً وذات صيت هام، أو حتى ندرة المشاركة في مؤتمرات أكاديمية عالمياً. نحن الفلسطينيون نعرف نتيجة تدني مستوى التعليم العالي وقلة الحوار وندرة الانتاج الأكاديمي من خلال برامج الماجستير في الجامعات المحلية. أنظروا مثلاً في رسائل الماجستير العديدة، كيف تكتب الدراسات السابقة؟: سرد مجزّأ وغير مترابط لدراسات يقوم الطالب بمراجعتها وقبولها كما هي دون مساءلتها؛ أو الخلط الشائع بين الإطار النظري والدراسات السابقة. وأزعم ان هذا الأمر سيتكرر في الغالب في أي برنامج دكتوراة طالما أن الأساتذة المشرفين هم أنفسهم من سيتولى التدريس والإشراف على برنامج الدكتوراة، وطالما ظل الحوار والنقاش بين الأكاديميين نادراً. الدكتوراة بالنسبة لي هي انخراط في إنتاج معرفة وليس تكرار ما تقوله كتب منقولة ومنسوخة وحتى مسروقة في بعض الأحيان. صحيح أن مكتبة (أو مكتبات) جامعة بيرزيت مميزة وتحتوى على العديد من المراجع سواء الإلكترونية أو الورقية المطبوعة، لكني لست متاكداً من جاهزيتها للبحث على مستوى برنامج الدكتوراة الذي يحتاج الى البقاء على تواصل مع أحدث أدبيات البحث ذات العلاقة. (قد يكون من المهم هنا التعرف على تجربة جامعة النجاح في فتح درجة الدكتوراة في الكيمياء، إن لا يزال البرنامج.) قد يقول قائل: لكن العديد من الطلبة يذهبون الى الجامعات العربية للحصول على الدكتوراة وهذه الجامعات ليست أكثر كفاءة تدريسية من الأكاديميين المحليين – فلماذا لا نقوم نحن بهذه المهمة؟ هذا إدعاء صحيح، لكني أعتقد أننا يجب أن نسأل سؤالاً آخراً: ما نوعية التعليم الذي تقدمه هذه الجامعات على مستوى الدكتوراة؟ وكم مساهمة خريجي هذه الجامعات في البحث والنشر محلياً ودولياً سواء باللغة العربية أو الأجنبية (الإنجليزية بشكل خاص)؟ هل إغراق الأكاديميا الفلسطينية بحملة شهادات دكتوراة في مدة زمنية تتراوح بين 9 شهور الى سنتين أدى الى تحسين التعليم العالي (وحتى العام) في فلسطين؟! أعتقد أننا جميعاً نعرف الإجابة على هذه الاسئلة، وأن جميعنا يعرف أن التعليم الفلسطيني في تدهور مستمر. (أنظروا مثلاً أداء الطلبة الفلسطينيين في دراسة التوجهات الدولية في الرياضيات والعلوم TIMSS للأعوام 2003، 2007 و 2011 أو في الامتحانات الوطنية التي تقوم بها وزارة التربية والتعليم). يجب أن لا ننسى أن أحد أبرز نقاط القوه لبرامج الدكتوراة في جامعات أجنبية هي العيش في ثقافة مختلفة وممارسة حياة وتجارب مختلفة، وطرق تعلّم وتعليم أكاديمية متعددة، وليس البقاء في نفس الجامعة والتعلم على أيدي الأساتذة أنفسهم، واتباع نفس طرق التفكير والتدريس. ربما يكمن جوهر الدكتوراة في التعرف على الآراء المختلفة والتعرف على أن المعرفة عملية مضنية وممتعة لا نهاية لها، لكن جوهرها هو إدراك المتعلم أن هناك الكثير كي يتعلمه بعد. كل ما أتمناه هو التأني والنظر ملياً والتفكير في جعل برامج الدكتوراة وسيلة لفتح آفاق جديدة تتلاءم مع حاجة المجتمع وتقدمه. كذلك آمل أن تنتبه بيرزيت الى أن جامعات محلية أخرى ستقوم لاحقاً بفتح برامج دكتوراة وسيبدأ التنافس بين الجامعات. لست ضد التنافس، لكني آمل أن لا تنتهي برامج الدكتوراة الي ما انتهت إليه برامج الماجستير. مع أطيب الأمنيات بالنجاح. جهاد الشويخكلية التربية، جامعة بيرزيت