المؤتمر الدولي "الفلسطينيون وحرب الابادة على غزة"
تقديم
لا يخفى على أحد أن التاريخ الحديث قد حمل للفلسطينيين الكثير من الأهوال والنكبات والنائبات التي لم تنتهِ بعد. فقد غرقت المكتبات بمختلف الكتب والتحليلات عن القضية الفلسطينية وتداعياتها ومآلاتها واحتمالاتها ومستقبلها! ولكن أحدًا لم يتنبأ بأن الأسوأ كان قادمًا وبأن مجزرة كانت هناك في انتظار الفلسطينيين! فقد شكل السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحول مركزية في التاريخ الجمعي الفلسطيني وفي الحاضر المعاش، ونقطة تحول أكبر حول ممكنات المستقبل.
ولعل هذه ليست المجزرة الوحيدة في التاريخ المعاصر كما هو معروف، ولكن لا يعني هذا أنها ليست لها خصوصيتها وظروفها التي تحتاج للتدقيق والتمحيص. فها نحن نشهد موتًا ودمارًا يوميًا موثقًا عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي، لأناس في حيز جغرافي محدود جدًا حيث فرص الفرار واللجوء غير متوفرة إلا للقليل. إن هذه الحرب التي تُصنف على أنها إبادة جماعية تكشف عن مدى الانتهاكات اليومية والجسيمة التي يتعرض لها الفلسطينيون، حيث تتجاوز هذه الانتهاكات القصف الجوي والهجمات العسكرية لتشمل أيضًا استهداف البنى التحتية الحيوية، والتجويع الممنهج، والأمراض المتفشية، والتطهير العرقي.
حيث تؤكد الإحصائيات حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمنطقة نتيجة هذه الحرب، فمع مرور أكثر من 460 يوم على هذه الحرب، وبحسب التقارير الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بلغت نسبة التدمير للقطاع 86%، وتُقدّر الخسائر الأولية المباشرة بحوالي 37 مليار دولار. وقد ارتكب الاحتلال نحو 3,798 مجزرة، أسفرت عن استشهاد 43,552 فلسطينيًا، بينهم 11,891 شهيدة من النساء و17,385 شهيدًا من الأطفال. الأثر الإنساني للحرب يتجاوز الأرقام، حيث يعيش أكثر من 2 مليون نازح في ظروف مأساوية (هل هذا الرقم مؤكد؟)، ودمّرت حوالي 159,000 وحدة سكنية بشكل كامل، وأصبح 83,000 منها غير صالحة للسكن. كما تضررت البنية التحتية بشكل كبير، حيث دُمرت 206 مقرات حكومية و129 مدرسة وجامعة، مما حرم مئات الآلاف من التعليم. هذا الدمار الشامل خلق أزمة إنسانية خانقة، ويُظهر كيف أن حرب الإبادة لم تستهدف فقط المباني وحتى الأجساد، بل أرادت أيضًا تدمير مقومات الحياة ومعاني البقاء وسرقة المستقبل لأجيال كاملة من الفلسطينيين. كل هذه الجوانب بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتوثيق والتحليل من خلال هذا المؤتمر.
تتفاقم هذه الظروف في ظل غياب استجابة دولية فعالة، مما يطرح تساؤلات عميقة حول القيم الإنسانية والأسس الأخلاقية للنظام الدولي الراهن. إن الفجوة بين الواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون وردود الفعل الدولية تشير إلى أزمة أخلاقية لا يمكن تجاهلها، وتستدعي دعوات ملحة للتغيير وإعادة النظر في القيم المتبناة. إذ كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهل الفظائع التي تُرتكب في غزة؟ وما هي العوامل التي تسهم في استمرار هذا الوضع رغم كل العهود والمواثيق الدولية التي تعزز حقوق الإنسان؟ آخذين بالاعتبار الموقف من صدور المحكمة الجنائية الدولية بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت بتهم جرائم الحرب في 21/11/2024. هناك حاجة لمراجعة دولية عامة ليس فقط حول ما يحصل للفلسطينيين والحراك العالمي المؤيد لهم، بل على مستوى النظام الدولي الحالي ومقومات وجوده وقيمه ومكانة الإنسانية فيه.
إضافة إلى كل ما تقدم، فإن أثر هذه المجزرة على الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، بالذات في الضفة الغربية والداخل المحتل، يلقي بظلاله أيضًا على كل المشهد. في ظل أصداء التحليلات العديدة عن مخططات دولة الاستعمار فيما يخص الاستيطان ومشاريع استكمال الاستحواذ على الضفة الغربية، والاعتداءات المتزايدة على المقدسيين وفلسطيني الداخل في محاولات لهدم هويتهم الوطنية واستكمالًا لمخططات الترانسفير التي لم تتوقف بل زادت شراستها. إن هذه الفترة التاريخية لهي فترة حاسمة جدًا للفلسطينيين ولاستراتيجيات الصمود على المستوى الفردي والجماعي. إضافة إلى موقعية الفلسطينيين والقضية الفلسطينية في السياق العربي الرسمي الجديد الآن، خاصة بعد سقوط نظام الأسد والضربة الكبيرة لحزب الله اللبناني ولليد القابضة لمعظم الدول العربية على شعوبها في ظل تصدر السعودية والإمارات للمشهد مع إسرائيل. وفي ظل السياسات المتغيرة لقطر وإيران والاتحاد السوفييتي.
وفي سياق (اللا) حياة داخل قطاع غزة اليوم وسؤال البقاء اليومي للناس، هناك العديد من الأبعاد التي تظهر وستستمر في الظهور أكثر وقتما تتوقف المجزرة. هناك الكثير من الأسئلة عن حياة الناس اليوم، وعن طرق عيشهم اليومية، وعن "السلم" الأهلي والاجتماعي والنفسي، حيث المشهد معقد جدًا. أسئلة كثيرة أيضًا عن ممكنات الحياة ما بعد المجزرة، وعن النسيج الاجتماعي والحزبي وكيف ومن سيستلم زمام الأمور. من سيهندس غزة؟ وكيف ستكون غزة المستقبل؟ وما مآلات حماس وفتح وغيرهم من صناعة المشهد الفلسطيني؟
في سياق هذه التحديات، يهدف المؤتمر إلى تسليط الضوء على الأبعاد المختلفة للقضية الفلسطينية اليوم وآثارها على الفلسطينيين تحت الاستعمار الأطول في العصر الحديث. إن الحاجة إلى فهم عميق وشامل للتطورات الحالية أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، حيث يتطلب الوضع الحالي استجابة أكاديمية ونقدية تسهم في تشكيل رؤية جديدة عن الفلسطينيين والقضية الفلسطينية ومستقبلها.