أزمة جامعة بيرزيت... أزمة التعليم العالي

بقلم: د. غسان الخطيب

تشكل الأزمة التي تمر بها جامعة بيرزيت، والمتمثلة بأقفال بعض طلبتها لبوابات حرمها الجامعي بالجنازير كرد على قرار ادارتها رفع اقساطها بحوالي 5%، مؤشرا على الحالة الصعبة التي وصل اليها قطاع التعليم العالي في فلسطين.

وقبل الخوض في جوهر المشكلة، لا بد من ابراز خطورة الأسلوب، فبدلا من استخدام مجلس الطلبة المنتخب، لأساليب الاحتجاج النقابية القانونية المشروعة كالإضراب مثلا، نراهم يستسهلون تعطيل الدراسة عن طريق قيام بضعة افراد منهم بإغلاق بوابات الجامعة قسرا، ومنع الاساتذة والموظفين والطلبة من الدخول.

وللأسف، سيكون من الصعب على كثير من المؤسسات الرسمية والأهلية والشخصيات الاعتبارية استنكار هذا الاسلوب غير القانوني الذي يمارسه مجلس الطلبة بقيادة طلبة مؤيدين لحماس، لأن نفس هذه المؤسسات والشخصيات احجمت عن استنكار هذا الاسلوب، لا بل شجعته وتواطأت معه قبل ثلاثة سنوات، عندما قام بمثله تماماً مجلس الطلبة الذي كان يقوده آنذاك طلبة مؤيدون لفتح، أي أنها اُكلت يوم أكل الثور الاسود.

تميزت جامعة بيرزيت بانها تأمل وتعمل دائما على أن يعيش الطلبة فيها اجواء من حرية النشاط و العمل النقابي وحرية التعبير وتقبل التنوع والتعدد في اطار احترام قانون وانظمة الجامعة، وربما كانت الوحيدة التي لم تحجم عن اتاحة الفرصة للانتخابات الطلابية والنقابية ولا سنة واحدة منذ تأسيسها، كما انها و في الفترة الاخيرة، التي احتدت فيها المناحرات الفئوية، كانت الجامعة الوحيدة التي ضمنت استمرار الانتخابات الدورية، بمشاركة كافة الكتل التي تمثل كافة الاتجاهات السياسية، لا بل ان جامعة بيرزيت هل المؤسسة الوحيدة التي احتفل فيها مؤيدو حماس بذكرى تأسيسها، وشاركهم وهنأهم طلبة من مختلف الاطياف بما فيهم شبيبة «فتح».

لذلك فإن اكثرية اساتذة وادارة الجامعة يشعرون بقدر كبير من المرارة، عندما يشاهدون الطلبة وهم يثقبون السفينة في الجزء المخصص لهم منها، من خلال الاخلال بقواعد العمل النقابي والقانوني، الامر الذي يمكن أن يؤدي الى غرق السفينة، بجميع من تحوي ومن تحمل.

أما جوهر الخلاف، فإنه يؤشر على الازمة البنيوية التي تعتري قطاع التعليم العالي في فلسطين، ذلك ان ادارة الجامعة، التي تتبع وسائل عديدة لتوفير مصادر تمويل لمصروفاتها المتزايدة بشكل طبيعي، لا تجد مناصا من ان يكون رفع الاقساط أحد هذه الوسائل، وذلك اضافة الى التقشف وجمع التبرعات، وتكثيف الضغط على الحكومة لتفي بالتزاماتها المالية للجامعات.

ولتوضيح اسباب زيادة الانفاق الطبيعي في الجامعات، والذي يؤدي الى زيادة العجز في الموازنة، يمكن الاشارة الى امثلة من العام المالي المنصرم، فقد رتبت نتائج اضراب اساتذة وموظفي الجامعات اعباء مالية لا يستهان بها، كذلك فإن انخفاض سعر صرف الدينار زاد من المبالغ التي تدفعها الجامعات لتعويض أي انخفاض عن سعر الصرف المتفق عليه، واخيرا، فإن الظروف الاقتصادية لصعبة لأهالي عدد متزايد من الطلبة، يملي على جامعة بيرزيت، وربما غيرها، الى توسيع برنامج المساعدات المالية للطلبة المحتاجين ليشمل حوالي ثلث الطلبة في العام الماضي، مما يثقل على موازنتها أكثر وأكثر.

فإذا كان ارتفاع مصروفات أي جامعة أمرا طبيعيا في بلد ترتفع فيه تكاليف كل شيء، وإذا كانت اقساط الطلبة تشكل حوالي سبعين بالمائة من موازنة الجامعات بالمتوسط، بعد التراجع التدريجي لمساهمة الحكومة، فما هي خيارات الجامعات المالية للمحافظة على بقاءها وعلى استمرار خدماتها؟

هما خياران احلاهما مرّ، فآما رفع الاقساط، وما يؤدي إليه من صعوبات لأهالي بعض الطلبة، أو زيادة عدد الطلبة بشكل مضطرد ومستمر. وان كان هذا هو الخيار الذي اتبع من قبل أكثر الجامعات للحد من عجز موازناتها، الا ان هذا الخيار هو المسؤول في نفس الوقت، ربما ضمن اسباب اخرى، عن التراجع في مستوى التعليم الجامعي.

وتجدر الإشارة هنا الى تزايد الملاحظات في السنوات الاخيرة حول مستوى خريجي الجامعات المحلية، مما يذكرنا بالحكمة التي تذكر باستحالة أكل الكعكة والاحتفاظ بها في الوقت نفسه.

من حق بعض الجامعات ان تختار ان تصبح جامعات جماهيرية تعتمد في قوتها وبقاءها على الحجم الكبير، وفي ذلك فائدة للمجتمع الذي ترغب نسبة كبيرة من ابناءه الحصول على شهادات جامعية، ولكن من حق جامعات اخرى مثل بيرزيت او غيرها إذا اختاروا، الاعتماد على النوعية والمستوى الأكاديمي والبحثي المتميز كمصدر قوة وبقاء، وهذا أيضا مفيد لمجتمعنا ويتكامل مع النوع الاول.

أما الاعتراض على رفع الاقساط بحجة أنه على يمس بالعدالة الاجتماعية، ويمكن أن يحرم بعض الطلبة المجتهدون من حقهم في التعليم، فهو حجة قابلة للدحض، ذلك أن القسط الجامعي يغطي فقط 60%-70% من تكاليف التعليم، وهذا يعني دعما للغني وللفقير، وهذا غير مبرر ولا منطقي، لان المنطق أن يدفع الطالب المقتدر تكاليف تعليمه على الاقل، وفي الوقت نفسه يتم اتخاذ الترتيبات التي تضمن توجيه كل الدعم المتاح لشريحة الطلبة التي يثبت عدم قدرتها على تغطية أقساطها.

العدالة الاجتماعية تتحقق بتوفير منح وقروض جزئية او كلية للطلبة الذين يحتاجونها، وليس كل الطلبة كما هو عليه الحال اليوم، وهذا الباب مفتوح للمساهمة من كل الجهات المعنية، سواء أهلية أو حكومية حزبية، (فعلى سبيل المثال، لو تم تحويل ثلاثة ارباع موازنة الدعاية الانتخابية في انتخابات مجالس الطلبة لصندوق الطلبة المحتاجين، لعالج ذلك نصف المشكلة).

وخلاصة القول ان أزمة جامعة بيرزيت تشير الى ان واقع التعليم العالي في فلسطين اليوم على مفترق طرق، فإما استمرار تنصل المجتمع الفلسطيني بمكوناته الأهلية والحكومية من مسؤولياتهم عنه، في نفس الوقت استمرار الفصائل السياسية الرئيسية باستعراض قوتها، واحدة بعد الاخرى، في ساحات الجامعات وبشكل غير مسؤول، أو اعادة الاعتبار لأصول العمل النقابي الطلابي، وفي نفس الوقت إفساح المجال للجامعات للتطور بالاتجاهات التي ترغب بها ضمن القوانين النافذة في البلد، مع تطوير نظام منح واقراض يحمي حق الطلبة المجتهدين وغير المقتدرين ماليا، حقهم في التعليم بدعم صناديق المنح في الجامعات وصندوق الاقراض الحكومي وما شابه.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.