تسنيم سليم من جامعة بيرزيت إلى مختبر Soleil Synchrotron في باريس كباحثة في فيزياء الطاقة والجسيمات الدقيقة

في مختبر Soleil Synchrotron في باريس، الذي يعد من أكبر مختبرات العالم المتخصصة بإجراء تجارب العلوم الأساسية والفيزيائية، ينصب اهتمام تسنيم سليم على تطوير تقنية جديدة لكاشفات الفوتون وتحسين كفاءتها، التي يتم استعمالها في العديد من تطبيقات السنكروترون كالطاقة المستدامة والبيئة والصحة.

تسنيم سليم، باحثة ما بعد الدكتوراة في فيزياء الطاقة العالية والجسيمات الدقيقة والمسارعات عالية الطاقة، بدأ شغفها في الفيزياء والرياضيات منذ طفولتها، وكبر هذا الشغف بالتحاقها بدائرة الفيزياء بجامعة بيرزيت عام 2008، وبعد أن أنهت مرحلة البكالوريوس بامتياز عام 2012 حصلت على منحة دراسة للماجستير وعملت كمساعدة تدريس في الجامعة، ثم انتقلت لجامعة XI Sud-Paris في فرنسا، وتخرجت بدرجة ماجستير في فيزياء الجسيمات عام 2015، بتمويل القنصلية الفرنسية في القدس، وأكملت دراستها للحصول على درجة الدكتوراة في فيزياء الطاقة العالية وفيزياء الجسيمات من جامعةSaclay-Paris ، وحصلت عليها عام 2018، وكانت خلال هذه الفترة قد عملت في المركز الأوروبي للأبحاث النووية (CERN).

بيرزيت البداية والحكاية

بعد أن أنهت تسنيم الثانوية العامة بتفوق، وحصلت على معدل 98.3%، لم تتردد بالالتحاق بجامعة بيرزيت. تقول تسنيم: "كانت دائرة الفيزياء في جامعة بيرزيت خياري الأول والأوحد، كانت هذه الدائرة هدفي، ولم أندم يوماً أنني التحقت بها، فمنها حصلت على المعرفة والخبرة التي أهلتني للتميز على زملائي في ذات المجال من جامعات عالمية مرموقة، كما أن العمل كمساعدة تدريس في الجامعة ترك أثراً كبيراً على شخصيتي".

وحول فرصة إكمال دراستها في فرنسا، قالت تسنيم: " حصلت نقطة التحول المحورية حينما قامت مجموعة من الباحثين والعلماء من المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN، بزيارة جامعة بيرزيت بدعوة وتعاون من رئيسة دائرة الفيزياء آنذاك د. وفاء خاطر،ر، وقد كانت تلك مبادرة ايجابية جدا من د. خاطر فقد أتاحت الفرصة لنا طلاب دائرة الفيزياء للتواصل مع علماء من CERN. لمدة فصل كامل قدم العلماء لنا مساقا في فيزياء الجسيمات التي لطالما أثارت فضولي واهتمامي، ونتيجة لتفوقي في هذا المساق و بتوصية من د. خاطر عُرض علي الفرصة لاستكمال درجة الماجستير. بذلك تمكنت من الحصول على منحتين لإكمال درجة الماجستير سواء في فرنسا أو ايطاليا ولكنني اخترت الذهاب الى فرنسا. وهنا يكمن أهمية الدور الذي يلعبه أعضاء الهيئة الأكاديمية في الدائرة بتوفير فرص كهذه للطلاب وقد كنا محظوظين بالدكتورة وفاء في ذلك الوقت كرئيسة لدائرة الفيزياء."

وتضيف تسنيم: "تلقيت أيضاً تشجيعاً من البروفيسور هنري جقمان، أحد أهم أعمدة دائرة الفيزياء في الجامعة، وأنا أشكره اليوم على الدعم والتشجيع الذي قدمه لي يوم اتخذت قرار مغادرة الجامعة لاستكمال دراساتي العليا في فرنسا، فقد التقيت به في مكتبه وقد كان نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية وأخبرته عن هذه الفرصة واعتذرت له أنه لن تتسنى لي الفرصة لإنهاء رسالة الماجستير معه كما كان مقرراً، وأنا لا أنسى يومها كيف أكد لي، ودون تردد، أن هذه فرصة ممتازة لي، وشجعني على المضي قدماً فيما أردت، ونحن على تواصل دائم حتى الآن. وأنا أكن له كل الاحترام والتقدير، فقد مرت سنوات عديدة وما زلت ممتنة لكل ما تعلمته منه حتى الآن".

 

باريس تجربة بحثية متميزة

بعد انتقال تسنيم إلى باريس، ركزت حياتها على البحث العلمي، حيث نشرت وشاركت في نشر أكثر من 300 بحث في مجلات علمية دولية محكمة. وحول مرحلة الدكتوراة تقول تسنيم: "جمعت في مرحلة الدكتوراة بين المحاكاة النظرية والتجارب العلمية لدراسة وتحسين كفاءة أجهزة الكواشف المستعملة في إحدى أهم وأكبر تجارب مسارع الهدرونات الكبير (LHC) في المركز الأوروبي للأبحاث النووية (CERN) على الحدود السويسرية الفرنسية، وعملت خلالها على تطوير تكنولوجيا جديدة لكاشفات الجسيمات التي سيتم استعمالها في المستقبل القريب بحلول عام 2024.

طورت تسنيم خلال عملها على رسالة الدكتوراة طريقتين أصيلتين جديدتين لقياس أثر الضرر الإشعاعي على أداء أجهزة الكاشف، وطورت حلاً لمشكلة لا يمكن تفاديها في بيئة مليئة بالإشعاع كمصادم الهدرونات الكبير في CERN، وبسبب هذا الإنجاز، مُنحت تسنيم جائزة أفضل طالب في مؤتمر ترينتو في إيطاليا عام 2017. (وهو أحد المؤتمرات المتخصصة في تكنولوجيا أجهزة الكواشف الذي تنظمه مجموعة من أفضل الخبراء والعلماء المعروفين في مجال كواشف الجسيمات العاملين في القطاع الخاص ومختبرات الأبحاث من جميع أنحاء العالم).

وتضيف: "رسالة الدكتوراة ساهمت في رصد أحد الجسيمات المكتشفة مؤخراً، الهيغز بوزون Higgs Boson، في إحدى قنوات الاضمحلال المعروفة نظريّاً، حيث يتحلل جسيم الهيغز إلى اثنين من الجسيمات الأولية تسمى b-quark، وهي إحدى قنوات الاكتشاف الرئيسية للهيغز بوزون، وقد واجهتنا العديد من التحديات، لكن تم الإعلان عن هذا الاكتشاف في نهاية عام 2018. وهذا الاكتشاف يسمح لنا، نحن الفيزيائيين، بدراسة خصائص الهيغز بوزون بدقة كبيرة".

وحول اختيار هذا الموضوع للدراسة، تقول تسنيم "هذا المزيج المميز هو ما ميّز رسالة الدكتوراة هذه عن غيرها، فالجمع بين التحليل الفيزيائي للبيانات للبحث عن الجسيمات الأولية والتطوير التقني لأجهزة الكواشف المستعملة في التجربة في نفس الوقت هو أمر نادر الحدوث في عالم فيزياء الطاقة العالية، وهذا ما دفعني بالأصل لاختيار هذا الموضوع على وجه الخصوص لرسالة الدكتوراة، فقد شغفني وكنت دائماً أتوق إلى ذلك".

ولا تقتصر إنجازات تسنيم سليم على الأبحاث والدرجات الأساسية فقط، فهي تشارك سنوياً في عددٍ من المؤتمرات العالمية، كما تعمل على توجيه طلاب الدكتوراة ومساعدتهم في مجالات أبحاثهم أو حتى في توجهاتهم العملية المستقبلية، حيث تترأس حالياً رابطة طلبة الدكتوراة في باريس، التي تضم أكثر من 300 طالب وطالبة.

أم لطفلين وباحثة فيزيائية

"باعتقادي، وأنا أومن جدا بهذا، أن أول داعم أساسي للإنسان في حياته هو عائلته. تجربتي كانت استثنائية نوعاً ما، فبالرغم من كل التحديات التي واجهتها وهي كثيرة، كنت محظوظة لأنني حصلت على دعم جميع أفراد عائلتي بلا استثناء وفي كل وقت. وأذكر هنا على وجه الخصوص أمي التي كانت حريصة أشد الحرص على إكمال دراستي الجامعية، فقد كان هذا حلمي وحلمها".

تسنيم أم لطفلين، عانت في بداية سفرها لفرنسا بالبعد عنهما لمدة 6 أشهر، حتى استطاعا اللحاق بها. تقول: "السعادة والرضا والإعجاب التي أراها في عيون أطفالي الصغار، هي الدافع لمزيد من النجاح والتميز، لقد أنجبت طفلي الأول في السنة الأولى من الجامعة وكنت وقتها في جامعة بيرزيت. كان هذا صعباً علي كأم أن أترك ابني كل يوم للذهاب الى الجامعة، وبالرغم من ذلك، لم يكن عائقاً أمام استكمال درجة البكالوريوس. أما الآن، وبالتأكيد، فتربية طفلين بجانب عملي في الأبحاث، أكثر صعوبة، والجمع بين الحياة المهنية والمسؤوليات العائلية بهذه الطريقة المثالية لم يكن بالأمر السهل قط، ولكن السر يكمن في ترتيب الأولويات وإدارة الوقت بحكمة، والقدرة على تحمل جميع هذه الأعباء والاستمرارية، وهنا يظهر حقا مدى شغفك بما تعمله، فالرغبة وحدها لا تكفي!".

إلى فلسطين يوماً ما

لم تستطع سنوات الغربة أن تنتزع الوطن من قلب تسنيم، فهي تحلم بالعودة إلى فلسطين قريباً، لتنقل الخبرات التي اكتسبتها للطلبة الفلسطينيين، ولكن المؤسف في الأمر أن أعمالها البحثية لا يُمكن إنجازها في فلسطين، تقول تسنيم: "لتوظيف خبراتي ومعارفي بالشكل الصحيح، ولتعم الفائدة، أعتقد أن خطوة العودة ستأتي لاحقاً، عندما تتاح الفرصة للباحثين أمثالي للقيام بأبحاثهم بالشكل المناسب مع وجود أساسيات البنية التحتية للبحث العلمي في جامعاتنا الفلسطينية، وربما إنشاء مراكز للبحث العلمي.. من يدري، وهذا لن يكون بدون تحييد المصالح الفردية جانبا". وتضيف: "أعتقد أن الأمور أحسن مما هي عليه في السنوات السابقة، خاصة في تخصص فيزياء الطاقة العالية. ولكن نحتاج إلى العمل أكثر والتعاون ربما بين الجامعات الفلسطينية لخلق بيئة مناسبة للبحث العلمي والتجارب العملية. ومن ثم العمل على توطيد التعاون مع مراكز الأبحاث في الخارج. هكذا هي الأمور في جميع دول العالم.. وعلينا أن ندرك جميعاً حقيقة أن البحث العلمي يعطيك كباحث حرية للعمل على ما تراه مناسباً، ولكن في نفس الوقت، هو عمل جماعي لا يمكن أن يكون بدون فريق! و مخرجات البحث العلمي تهدف دائما لخدمة البشرية جمعاء وهذا هو الهدف الأسمى".

وتوجه تسنيم كلمة لطالبات جامعة بيرزيت بشكل عام، وطالبات العلوم بشكل خاص قائلة: "الشغف والإصرار والعمل الجاد هي مفاتيح كل إنسان ناجح. التحديات موجودة دائماً، لا تهربي منها، بل واجهيها، الطريق إلى القمة لن يكون سهلاً، لكنه مهما بلغ من الصعوبة، فإن النساء الطموحات قادرات حقّاً على فعل المستحيل، إذا عزمن على ذلك، وخاصة المرأة الفلسطينية، التي تحملت الكثير".