سارقات المشمش الجميلات

في الوسط هناء خوري 88 عاما، إلى يسارها سامية ناصر 86 عاما، وإلى يمينها ريما ترزي 88 عاما، وثلاثتهن مطلوبات في جرائم سطو على أشجار المشمش في بيرزيت وجفنا أيام الدراسة في كلية بيرزيت قبيل النكبة.

لم تفلح عقوبة دفع الشلن في ثنيهن عن هذه الهواية، فما كان من مديرة الكلية نبيهة ناصر رحمها الله، إلا أن اخترعت عقوبة جديدة، وهي إجبارهن على تجرع زيت الخروع.

هذا جزء من ذكريات كثيرة تبادلتها السيدات الثلاث، لدى لقائهن رئيس جامعة بيرزيت الدكتور عبد اللطيف ابو حجلة، ثلاثتهن ما زلن يكرهن درس الجغرافيا، محاولات سامية لتغشيش هناء لم تفلح، ومحاولات هناء لتحسين خطها لم تؤت ثمارا، وآمال ريما في أن تنتصر لها المديرة لأنها عمتها كانت آمالا مخادعة.

لقاء الصديقات بعد سبعين عاما في مدرستهن التي اصبحت جامعة، لم يكن الأكثر استحواذا على المشاعر، فهناء جاءت من الناصرة مصحوبة ببناتها وأولادها وأحفادها وحفيداتها لتروي ذكريات تلك الليلة المشؤومة:

"بعد أن قضيتُ في بيرزيت ثلاثَ سنوات اعتبرها حتى اليوم من أجملِ سنواتِ حياتي، وايامًا قليلةً قبلَ تقدمي للامتحانات النهائية، جاء أخي خليل من الناصرة وأخبرني بضرورة العودةِ قبل اغلاق الحدود..... عدنا سويا إلى الناصرة وحملت معي صندوقَ كتبي لكي أتمكن من التحضير لامتحاناتي النهائية التي طالما حلمت بتقديمِها، لكني احسسْتُ حينَها أن هذه العودةَ كانت تختلف عن زياراتي السابقة إلى الناصرة... حاول أخي خليل طمأنَتي باحتمالِ العودة الى مقاعدِ الدراسة واكمالِ دراستي وتقديم الامتحانات، بعدَ مرور الازمة. إلا انّه مع مرورِ الوقت وتطوّرِ الأحداث فهمتُ أن هذه الإمكانيةَ وللأسف غيرُ واردةٍ. في 15.5.1948 انسحب الجيشُ الانجليزي، سلمت البلاد، أُغلِقَتِ الحدودُ، ولم أتمكّنْ من العودة وانهاء دراستي".

كانت تنظر إلى أحفادها وحفيداتها وتقول: "هذه هي بيرزيت التي كنت احدثكم عنها، هذه هي روحها التي لا تموت، هنا كنا نتلقى العلم في اجواء من الاحترام، العلاقةُ مع المعلمين كانت متميزة يسودها الاحترامُ المتبادل، كانوا ينادونني "مس خوري" الأمرُ الذي اشعرني بالقرب، المودة، الصداقة والاحترام... كان المعلمون والمعلمات يخرجون معنا بالفرص ويشاركوننا لعبَ كرة الطائرة وأذكر أننا لعبنا ضدَّ فريقٍ من مدرسة الفريندز في رام ألله وشميدت بالقدس... احتفالات أعياد الميلاد كانت في الطبيعة، نفرح ونكتفي بشقحة بطيخة احتفاءً بصاحب العيد... هنا شاركت وزميلاتي بجوقة المدرسة وغنينا أغانيَ مختلفةً، محليةً وعالمية..."

الموسيقى باب جديد للذكريات فالصديقات الثلاث عاشقات للكلمة والنغم وتلميذات نجيبات لمدرس الموسيقى اللامع سلفادور عرنيطة، رئيس فرقة موسيقى جامعة بيرزيت: سامية رائدة العمل التطوعي الدائمة تبدع في كتابة الأمل، وريما ملحنة مبدعة لحنت أشعار كمال ناصر، وعمر أبو ريشة، وأبو القاسم الشابي، وإبراهيم طوقان، وغيرهم، وأما هناء فهي مغنية جوقة ذات باع طويل.

غنت الصديقات معا لحنا قديما من أشعار الأستاذ حنا ابو حنا، ما زلن يحفظنه بالكامل:

لا لن يطول بُعْدي            وسوف أُبصر عودي

نعم سأعود وتُفنى القيود      وسوف أراك حِماي

وكأن السبعين سنة التي تلت النكبة لم تكن إلا يوما واحدا فقط.

 

سبعون عاما ظلت هناء طوال أيامها الطويلة تتحسر على عدم استطاعتها اكمال الدراسة في بيرزيت، وزاد من سوء تلك الفترة أنها لم تستطع الحصول على وظيفة بسبب القمع الذي كان يتعرض له مؤيدو عصبة التحرر الوطني، وكان ردها ورد عائلتها هو انشاء جوقة الطليعة والتي أصبح اسمها الآن جوقة الناصرة.

ما زالت هناء تحضر تدريبات الجوقة كل يوم أربعاء صيفا وشتاءً، وتشارك في عروضها، وقد استغل رئيس الجامعة هذه الفرصة ليوجه دعوة لمشاركة هناء وجوقتها في مهرجان ليالي بيرزيت الشهر القادم.

وبينما كان يسلمها الشهادة التي تثبت أنها درست ثلاث سنوات في كلية بيرزيت ولكن من دون أن تستكمل متطلبات التخرج، عرض عليها مقعدا دراسيا في برنامج بكالوريوس الموسيقى العربية الذي أطلقته بيرزيت هذا العام.