اليوم العالمي لحرية الصحافة ... حوار مع صالح مشارقة

يصادف الثالث من أيار اليوم العالمي لحرية الصحافة، والذي تحتفي به الأمم المتحدة ومجتمع الصحافة والإعلام حول العالم. ويأتي هذا العام تحت ثيمة "حرية الوصول إلى المعلومات"، والتي تركز على تعزيز مفهوم تداول المعلومات كمصلحة عامة، ملك للناس، وعلى أهمية استخدام المعلومات وإعادة إنتاجها كمحتوى إعلامي، والدفع بقيم الشفافية والمشاركة للجميع. وتأتي ثيمة العام الحالي أيضاً -حسب إعلان الأمم المتحدة- وسط تغييرات طرأت ولا تزال على منظومة الاتصال التي تؤثر على الظروف المعيشية الصحية للشعوب، وحقوقها، والعملية الديمقراطية، وتطلعاتها لتحقيق التنمية. 

أما عربيا وفلسطينيا، فهناك تساؤلات عديدة حول حرية الصحافة، وحرية الوصول إلى المعلومات بشكل عام، في بيئة إعلامية تتسم بصعود الجمهور كفاعل ومنتج وناشر ومتفاعل مع لمحتويات الإعلامية، وليس متلق فقط، وفي بيئة سياسية لا تعزز الشفافية بما يكفي تطلعات الشعوب، وبيئة اجتماعية لازالت في مكان ما بين التقدمي والتقليدي. 

وقام مركز تطوير الإعلام بجامعة بيرزيت بنشر عدد من الدراسات والأبحاث التي تناولت حرية الصحافة، إضافة إلى عدد كبير من الدراسات التي تناول مواضيع ذات صلة، مثل أخلاقيات الإعلام، وقوانين حرية الصحافة، بهدف التدريس والتثقيف حول القضايا الإعلامية، ودعم تطوير قطاع الإعلام أكاديميا ومهنيا، من أجل المساهمة في إعلام فلسطيني فاعل ومجتمع عادل ومنسجم. 

ولنقاش حرية الوصول إلى المعلومات في سياق حرية الصحافة، أجرينا الحوار التالي مع صالح مشارقة، الصحافي والكاتب، ومنسق السياسات والأبحاث في مركز تطوير الإعلام بجامعة بيرزيت.

بالنظر إلى التغييرات التي فرضها الإعلام الجديد على عالم الصحافة والإعلام، أصبحنا نتساءل حول وجود المدارس التقليدية للصحافة على أرض الواقع، والتي لها علاقة مباشرة بمفهوم حرية الصحافة، ففي وضع يتميز بعولمة المعلومات، وسيطرة الإعلام الإلكتروني على المشهد، وعولمة الكثير من القيم الديمقراطية والتحررية، ما هو مفهوم حرية الصحافة الآن؟ 

  • لا اعتقد أن هناك موت مدارس في الاعلام، أو انطفاء نظريات، بمقدار أن مرحلة جديدة تماما دخلت، وهي مرحلة الإعلام الرقمي، التي تتطلب الكثير من التنظير للوصول الى أفضل إعلام يمكن أن نصل إليه، خصوصا أن الرقمي هذا متعدد الأطراف، وخارج فكرة المؤسسة، وغير متفق على تنظيمه بالقانون، وإنما مساحة حرية مفتوحة خارج سيطرة الدولة والمجتمع. هذا "المضمون العملاق" من الرأي العام ما زال في أوله، أحيانا ينظمه المستخدمون، ويؤثر عليه الصحفيون، وأحيانا يستغل من قبل شركات المنصات، ولكنه إلى الآن في مرحلة الدحرجة ويكبر بلا هوادة

للأسف، أن هذا الإعلام الجديد بكل تجلياته، أفاد حرية الرأي والتعبير في المجتمع بشكل عام، فيما ظلت حرية الصحافة في مؤسساتها التقليدية متأخرة، لأن شبكات التواصل الاجتماعي سبقت وسائل الاعلام في حرية الرأي والتعبير، وصحافة المواطن نافست مهنة الصحافة، والتواصل الاجتماعي صار أقوى من إنتاج رسائل مؤسسات إعلامية مدروسة ومتأنية وتعرف حدودها. هذا الجديد في عالم الاتصال يحاصر حرية الصحافة في السنوات الأخيرة، لأن المؤسسات الإعلامية -على الأقل في العالم العربي-لم تقرأ التطورات الرقمية، أو أن بعضها ساير الانفجار الرقمي باستخدام قنواته وليس بقراءة التحولات الاجتماعية حول الرقمنة، وبالتالي التحول بالمفاهيم وليس الانتقال المجرد إلى استخدام القنوات للمضامين التقليدية

في ظل التوسع الكبير لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتسرب المعلومات بطرق غير تقليدية، وعلى نطاق دولي، بحيث أصبحت تسريبات وفضائح أكثر من إفصاح ومشاركة، إلى أين تعتقد أن مفهوم حرية الوصول إلى المعلومات متجه: هل ترى أنه لازال من المجدي المطالبة بحرية الوصول إلى المعلومات؟ أم ربما من الأجدى المطالبة بحماية مصادر المعلومات؟ 

  • الرقمنة قادت إلى "المجتمع الزجاجي" أو الشفاف كما يقول تشول هان. كل المعلومات عن الفرد وعن المجتمع متاحة بشكل مرعب، شبكات التواصل الاجتماعي لسنوات دفعت البشر لكشف كل بياناتهم، أجسادهم ومنازلهم وعائلاتهم ومناسباتهم وحتى غرف نومهم. خاصية الذكاء الصناعي اقتحمت الخصوصية، والمطورون في شبكات التواصل وفي الشركات صمموا وصولا قهريا كبيراً إلى معلومات الناسالمجتمع والفرد الآن بعد عشر سنوات من الاندهاش والاستمتاع بالتواصل الاجتماعي بدأ يدفع الثمن، وسياسات العودة إلى حماية الخصوصية هي الأكثر تداولا الآن في تنظيم الإنترنت والتواصل الاجتماعي
  • للأسف ان هذا الواقع الرقمي الجديد لم يخدم بعض المجتمعات، وتحديدا تلك التي تشبهنا في حرية الوصول الى المعلومات بالمعنى الثقافي والسياسي، والذي يؤدي إلى شفافية الدولة ونزاهة المؤسسات العامة وثقافة التعميم وعدم التعتيم، وهذا لا ينطبق على المعلومات المتداولة في التواصل الاجتماعي، هناك حيث تنكشف معلومات الجمهور، ويتواصل التعتيم على معلومات الدولة، وهذا يؤدي إلى توفر الحماية لمصادر الدولة، بينما مصادر الجمهور مستباحة على التواصل الاجتماعي، وتتعرض للتنمر والتحفيل والذباب الإلكتروني والقمع

أصبحت المعلومات واستخدامها اليوم قضية إشكالية، في ظل انتشار "إعلام المواطن"، والذي ربما يتعامل مع المعلومات دون وجود أية رسالة أو هدف أخلاقي (نرى كل يوم كيف يتم انتقاص أو إخراج المعلومات من سياقاتها أو تشويه الحقائق)، برأيك، كيف يؤثر سوء استخدام المعلومات على شرعية المطالبة بحرية الوصول إليها؟ 

  • إعلام المواطن واقع تحت غضب كل المدارس الفكرية في الصحافة والاعلام، بسبب سرعته الجنونية وانحلاله من التنظيم، وقدرته على الانطلاق أو الانتهاء في مناقشة أي قضية دون أن تكون القضية مملوكة لأحد، هذا الواقع الجديد من الفضاء العمومي من منظور هابرماس، انفلش وأصيب بأعراض الشعبوية والأخبار المضللة وكتلة ضخمة من المعلومات غير المدقق فيها، وبدلا من أن يكون فضاء عموميا تتم فيه مراجعة وظائف الدولة والمجتمع بشكل مسؤول، يتحول إلى تدافع معلومات غير منظم ورأي عام متهافت يرسب كثيرا في خلق واقع جديد
  • لكن هذا الواقع السيء من تداول المعلومات لا يجب أن يكون مسوغا للتعتيم على المعلومات، لأن التعميم قيمة سياسية وثقافية مهمة ويجب تحقيقها بمعزل عن الإعلام الرقمي أو الإعلام الاجتماعي، فالوصول إلى المعلومات معيار وقيمة يجب تحقيقها وتقنينها في المجتمع قبل أن ننظر إلى الاعلام الاجتماعي كطريق وحيد للوصول إلى المعلومات.  

في فلسطين والعالم الثالث عموما، ترتبط حرية الصحافة والوصول إلى المعلومات بـ "تحقيق المصالح الوطنية"، لكننا أيضا تحت احتلال يعيش في بيئة سياسية وقانونية خاصة به تتيح لصحافته قدرا كبيرا من حرية الوصول إلى المعلومات، فكيف يمكنك أن ترى هذه المقارنة التي نجريها يوميا بين إعلام فلسطيني يوصى بالمصالح الوطنية أولاً، وبين إعلام احتلالي يتمتع بدرجة عالية من حرية الوصول إلى المعلومات وممارسة الدور الرقابي؟ 

  • للأسف، خاصية حرية الصحافة متوفرة في الإعلام الإسرائيلي أكثر من الاعلام الفلسطيني، حرية الرأي متوفرة أكثر للصحفيين وكتاب الاعمدة والمؤسسات الصحفية في اسرائيل بشكل أقوى مما هو موجود لديناـ ربما لأن التجربة أطول، ولأنها تجربة في ظل دولة سيدة على مواردها ومصادرها، وبالتالي وفرت الحرية لصحافتها. نحن في الاعلام الفلسطيني: حرية المؤسسة وحرية الصحافة وحرية الرأي يحكمها حالة اللادولة، والرسمية أكثر من العمومية، والخصخصة المستسلمة للمشغل ورجل الأعمال والتابعة للمالك أكثر من التبعية لمعايير الديمقراطية والشفافية والنزاهة
  • المعلومات والآراء في فلسطين بحاجة إلى حرية مثلما تحتاج الثوابت الوطنية، ولكن قليلين من يؤمنون بهذه الحريات، والغالبية تعتقد أن حرية الوطن أهم من حرية الرأي، ويوما ما في لحظة التحرر سنصطدم بنتاج تجربتنا الإعلامية، ونكفر بها مثلما يحدث في حقول كثيرة مثل النسوية والثقافة والاجتماع والحقوق الفردية...الخ. وسنكون قد خسرنا سنوات كثيرة.

هناك مقالة بأن الحرية مقدسة، وأنها لا تُجزأ، ولا تخضع لشروط، وأن التأثيرات السلبية المتوقعة من ممارسة الحرية الكاملة يجب ألا تضع موضوع الحرية مثار نقاش، لأنه لا يمكن مقارنة محاسنها بمساوئ غيابها. ما رأيك بهذه المقولة عند ارتباطها بحرية الصحافة والإعلام؟ 

  • الحرية تصطدم في السنوات الاخيرة بمرحلة "ما بعد الحقيقة"، الأهواء والأمزجة والذاتية المفرطة تتحكم في الاتصال والتواصل، وهذا مرده إلى عصر رقمي غير منظم إلى الآن، ولم يصل إلى مرحلة التنظيم الذاتي بعد، حرية الصحافة صارت في المراتب المتأخرة من الاهتمامات، في ظل الأخبار المضللة وانتهاكات الخصوصية على الشبكات، واضطراب المعلومات والحاجة إلى سلة أخلاقيات ومدونات سلوك جديد للإعلام الاجتماعي. وتربية إعلامية يجب أن تستدخلها الدولة والمجتمع في التعليم المدرسي أو الجامعي قد تؤدي إلى استعادة التوازن المفقود في حرية الصحافة. أنا من المتشائمين في هذا الموضوع ولدي احساس بأن الصحافة ستنعزل عن القيم الإضافية التي جاءت بها شبكات التواصل، وستظل متأخرة عن الشبكات وغير قادرة على منافستها. هذا الأمر يحدث بقوة في المجتمعات النامية التي تخسر وسائل إعلامها الرسائل والإعلانات واقتصاد الصحافة، بينما تفوز بها شركات واد السيلكون والشركات العملاقة التي تملك شبكات التواصل.