خريجو بيرزيت يرسمون واقعًا جميلاً بين الشمس والأرض

الأمر بسيط. وحياتنا نشكلها بأيدينا. ولدينا أفكار قد تحلّق بنا. هذا خيار أول.
الخيار الثاني هو الركون إلى الأفق الضيق، وشتم الظروف والبطالة وقلة الحيلة.

ثلاثة من خريجي كلية الهندسة في جامعة بيرزيت قرروا أن يحلّقوا بإبداع مع أفكارهم، تاركين مهمة البكاء على البطالة لغيرهم.

ليس هذا وحسب، كانوا مهرة إلى الحد الذي مكّنهم من اصطياد رفّ من العصافير في ضربة واحدة.
لقد خلقوا فرص عمل لهم ولغيرهم، وبدأوا تصميم بيوت صديقة للبيئة، وتكلفتها قليلة.

بين الشمس والأرض، وباعتبارهما مصدرين مهمين للعمل، كانوا يخططون مستقبلهم ويحاولون أن يحدثوا فرقًا، فكانت البداية في "مرسم شمس أرض للتصميم البيئي"، الذي يقدم حلولاً وتصاميم معمارية باستخدام مواد وطرق بناء قديمة وحديثة لإنشاء مبانٍ صديقة للبيئة والإنسان.

بداية مليئة بالتحديات
كان عام 2012 هو البداية، حيث انطلق "مرسم شمس أرض" للحياة، وهو مكتب هندسي معماري متخصص بالتصميم البيئي، ممول ذاتيًّا، على يد ثلاثة معماريين من بيرزيت، هم: دينا صالح ولينا صالح ورامي كسبري، التقوا معًا، وكلهم أمل في تغيير الصورة النمطية حول البناء، وإعادة استخدام المواد المستخدمة ومخلفات مشاريع البناء في أودية المدن والقرى.

لينا تحدثت عن التحديات التي واجهت مشروعهم في البدايات. تقول: "بدأنا تجميع الطبليات الخشبية، وحديد البناء الملقى، وأكياس وقناني بلاستيك وكراتين في مكتبنا الصغير برام الله، وأعدنا تصميم هذه المواد للانتفاع منها مجددًا، ونفذناها بأنفسنا، لإدراكنا لأهمية الشعور بالمواد من خلال العمل بها، وهدفنا في العمل هو الاعتماد على الذات وتقدير الموارد المحلية من حولنا مما يعد قليل الأهمية، ويمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة".

الذهاب للحرفيين كان من أكثر الصعوبات التي واجهها "شمس أرض"، فكيف يمكن إعادة استخدام برميل ملقى على الشارع ليصبح كرسيًّا أنيقًا؟ وكيف يمكن إعادة بناء "طبلية" خشب في بناء سرير نوم؟ تشرح لينا هذه المصاعب بقولها: "كان الحداد، على سبيل المثال، يتفاجأ مما نطلبه منه، ويحاول إقناعنا بتصميم المواد بالطريقة المعهودة. وفي كثير من الحالات، لم يأخذ الحرفيون، كالحداد والنجار، طلباتنا بجدية".

ومن "التحديات الكبرى" التي تصفها دانا، إقناع الناس بأهمية العمل بمواد محلية صديقة للبيئة، ومدى النفع الصحي والاقتصادي لعمل كهذا. تقول دانا: "المقاولون والعمال والحرفيون يخشون أحيانًا العمل في هذه المشاريع لقلة الخبرة السابقة، ولتجنب المخاطرة في الربح، على الرغم من عدم الحاجة لوجود عمال مهرة للبناء بالطين، حيث إننا ندرب العمال على طريقة خلط المواد والبناء بسرعة، إلا أننا نجد صعوبة في إيجاد العقّادين أو بنائي الطوب للاستفادة من خبرتهم وتعميمها، فهي من الحرف التي توشك على الاندثار لقلة الطلب على هذا النوع من المباني".

وتوضح دانا بعض الصور النمطية الخاطئة لدى الناس، تقول: "من الصعوبات في عملنا أن كثيرًا من الناس يعتقدون أن البناء بالباطون والحجر هو بناء بيئي، غافلين عن أن استخراج الحجر من الجبال يشوه المشهد الطبيعي في مدننا وقرانا. وما نسعى له هو البناء بالطين أو بالحجر الطبيعي الموجود على سطح الأرض، تمامًا كما في البيوت الفلسطينية الحجرية التقليدية".

تجربة رقم 1
كان أول عرض لشمس أرض في عام التأسيس، وسمي المعرض "تجربة رقم 1". تفاجأ القائمون من كثافة الحضور والمهتمين، ما أدى إلى تمديد فترة العرض، وسط إقبال على شراء المواد المصممة.

تقول لينا: "كل قطعة معروضة، كنا نعرض بجانبها كيف بدأت وأصبحت بشكلها الحالي. كان الجمهور يتفاجأ من بساطة المواد، وكيف يعاد بناؤها، وكيف تساهم هذه البساطة في حماية البيئة والمجتمع الذي نعيش فيه. كان هذا المعرض مهمًّا لنا، فقد شجعنا هذا الاهتمام على المضي قدمًا في العمل وبدء العمل في العمارة البيئية، وهي محور اهتمامنا، رغم التحديات الكبيرة، وأهمها الحصول على ثقة المجتمع وتقبله لأفكارنا".

بيت القمر
بعد عقود من الاستغناء عن الطين، واستخدام الإسمنت بدلاً منه في البناء؛ أعادت فكرة رجل فلسطيني ببيت بارد شتاءً دافئ صيفًا، هذا النمط القديم، لكن بما يلبي احتياجات العصر الحديث. فتلقف المرسم الفكرة وحولها إلى حقيقة جميلة على الأرض اسمها "بيت القمر".

بدأ هذا المشروع بمحض الصدفة، عندما زار أحمد داوود مرسم"شمس أرض" بحثًا عن تصميم لمقعد.

يقول رامي: "أخبرنا داوود عن اهتمامنا بالبناء في الطين، فأبدى إعجابه بالفكرة، فطالما حلم ببيت يذكره ببيت أجداده ولا يذكره بقساوة الطوب والباطون في مخيمات اللاجئين".

ويتذكر رامي نظرات سكان أريحا المتفاجئة من هذا البناء، واعتقادهم أنه فقط من أجل جذب السياح، وليس للعيش فيه. أما بالنسبة لداوود، فهو بيت العمر.

بعد بيت القمر، نجح "شمس أرض" في تنفيذ المزيد من المشاريع، كحديقة القيقب في مدينة رام الله. كما تعاون مع اليونسكو في تصميم عدة مبانٍ ضمن مشروع "إعادة إحياء العمارة الطينية في غور الأردن". ومن مشاريعهم المستقبلية تصميم مطعم وقاعة وبيت ضيافة وحديقة تعليمية للأطفال.

الاعتماد على الذات
تؤكد دانا أن مشروع "شمس أرض" هو تعزيز لثقافة الاعتماد على الذات وتقدير الموارد المحلية من حولنا، مشيرة إلى حال المجتمع الفلسطيني الذي أصبح يعتمد كثيرًا على المعونات الخارجية. تقول: "ندرك مدى غرقنا في المعونات الدولية والعمل وفق أجندات الدول المانحة، وهذا مهم لنا كشباب فلسطيني يثبت لنفسه ولغيره قدرتنا على العمل دون دعم أو شروط من أحد. نحن نركز على استخدام المواد المحلية والطبيعية، والطين من هذه المواد التي نستطيع الاعتماد عليها في البناء بسبب وفرته، كما أن الطين يتمتع بعزل حراري كبير، فيكون البيت باردًا في الصيف ودافئًا في الشتاء، على عكس الباطون الأقل تكيفًا مع البيئة، إضافة إلى أنه يتم استيراد الإسمنت من إسرائيل"، ما يعني أن إسرائيل تتحكم بالكميات، وقد تمنع تزويد الفلسطينيين بالإسمنت لأمر ما، كما حدث مع قطاع غزة.

ولا تغفل دانا وشركاؤها القيمة المجتمعية والاقتصادية من استخدام الطين. تقول: "المردود المادي من البناء بالطين يذهب معظمه للأيدي العاملة، أما المباني الاسمنتية، فإن معظم التكلفة تذهب لمصانع معظمها خارج البلد، الأمر الذي لا يعود بفائدة على المجتمع المحلي. البناء بالطين ليس فكرة جديدة أو مبتكرة، بل إن ما ورثناه من مبانٍ في الغور هو مبانٍ طينية بنيت من آلاف السنين، وأثبتت ملاءمتها للمناخ".

الحلم الحقيقة
المتابع لمرسم "شمس أرض"، وكيف تحول هذا الحلم لواقع، وكيف أعاد استخدام الطين في بناء البيوت؛ يمكنه أن يتوقع المزيد من التقدم والنجاح لهذا المشروع. عن مشاريعهم المستقبلية، تقول دانا: "نعمل على تطوير أساليب البناء الطبيعي الذي يستخدم الموارد المحلية المستقلة لكي نتمكن من توفير هذه التقنيات لعدد أكبر من الناس. أما بالنسبة للأثاث المصنع من مواد معاد استخدامها، فالهدف هو تطوير واعتماد تصاميم فعالة في استخداماتها للمخلفات، وكذلك متينة وجميلة ومقبولة للسوق المحلية".

يأمل القائمون على "شمس أرض" في يصلوا في السنوات الثلاث المقبلة إلى فعالية في التصميم البيئي والبناء الطبيعي. تقول دانا: "نأمل أن نكون قد جمعنا فريقًا من المهندسين والمهتمين بالعمل والمعرفة البيئية وانتقلنا لتطبيق مشاريع كبيرة ومؤثرة، تمكننا من الوصول لحلول معمارية وتصميمية فعالة يكون حفظ البيئة واقتصاد المقاومة من العوامل الرئيسية في تشكيلها".