د. عادل الزاغة يقدم مداخلة بعنوان "الكفاح في سبيل السلع العامة والعيش بكرامة في العالم العربي"

ضمن ندوة "تقاطعات الانتقال: الاقتصاد والتحول الديمقراطي في الوطن العربي" التي عقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 7 آذار 2017 في الدوحة، قدم د. عادل الزاغة، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت والباحث الزائر بالمركز العربي مداخلة بعنوان "الكفاح في سبيل السلع العامة والعيش بكرامة في العالم العربي". حيث أوضح أن مصدر المأزق الاقتصادي قبل الربيع العربي كان خطيئتين وقعت فيهما الدول العربية؛ الخطيئة الأولى، كانت وصولها بنموذجها الموروث منذ الاستقلال باقتصاده القائم بالأساس على قطاع عام قائد وبقطاعه الخاص البازغ والمقموع في آن معا إلى نهاياته مهدرا بذلك فرص الديمقراطية، بمقايضتها بمنافع اقتصادية وسياسات اجتماعية غير مستدامة؛ الحال التي عجزت لاحقًا عن استيعاب التضخم الديموغرافي وحال "انتفاخ" الفئة العمرية الشابة التي بُذرت منذ السبعينيات. لقد غابت عن الدولة أي سياسة مهمة لاستيعاب هذه التحولات، ومعها لم يبق إلا القمع؛ ثم اقترفت الدولة الخطيئة الثانية بتبنيها وصفة نيوليبرالية قاسية للإصلاح الاقتصادي، تلتزم "إجماع واشنطن"، بما حمله من مشاريع الإصلاح الاقتصادي والخصخصة وفرض السوق الحرة، والتي نفذت عبر عقدين بطريقة تعزز مصالح التحالف الاجتماعي للنخب السياسية والاقتصادية المهيمنة؛ فكانت النتيجة سلسلة من الصدمات الاقتصادية والسياسية، رفعت من معدلات الفقر والبطالة وزادت حدة التفاوت.

وأوضح د. الزاغة أنه لسيطرة النهج الاقتصادي النيوليبرالي على فكر وصانعي السياسة في العالم العربي آثار مدمرة أدت إلى انسحاب الدولة من تقديم السلع والخدمات العامة وذلك بتقليص دورها في توفيرها، وإهمال العمل على إصلاح بعض من مظاهر فشل السوق، بما في ذلك تقليص دورها في إعادة توزيع الدخل بصفتها سلعة عامة. وقد أدت هذه العملية إلى إهمال السلع والخدمات العامة فتقلص حجمها، وتراجعت نوعيتها في العديد من البلدان العربية، ما ألحق الضرر بشكل خاص بالطبقة الوسطى وأكثر بمن ينتمون لشرائح الدخل الدنيا، والمعدومين والمحرومين. هذا التراجع في دور الدولة في توفير السلع العامة بالنسبة للطبقات الغنية ومن ينتمون للشرائح العليا من الدخل كان أمرا هاما من جانبين فقد قلص من فعالية الضرائب المفروضة عليهم حيث مكنهم من الحصول على إعفاءات منها، وأتاح لهم البحث عن حلول خاصة تعود عليهم بالمنفعة الخاصة العالية وتكاليفها بالنسبة إليهم أقل من الضرائب التي كانوا سيدفعونها لو استمرت الدولة بتقديم هذه السلع والخدمات وزيادة عدد المستفيدين منها، وتحسين نوعيتها. ويعتبر هذا الانسحاب الهادئ واحدا من الآليات التي أدت إلى إفقار الطبقة الوسطى، وشكلت الأساس لنشوء تحالفات جمعت أبناء الطبقة الوسطى والطبقات المحرومة والمهمشة في سعيها لتغيير هذا النظام غير العادل ولتحقيق الأساس للعيش بكرامة في مجتمع يتعولم ويفقد خاصة التكاتف الاجتماعي كواحدة من أعمدة التنمية المستدامة.

واستعرضت مداخلة د. الزاغة اتجاهات النفقات العامة فيما يتعلق بجانب حقوق اقتصادية أساسية للإنسان يستحيل بدونها الحفاظ على العيش بكرامة، ومدى تغطيتها، ونوعيتها واستدامتها، في بعض الدول العربية خلال الأعوام التي سبقت الربيع العربي وما بعده. واستعرض في مداخلته سؤال البحث عن نهج لإعادة التوزيع، بوصفه خيرًا عامًا، يقوم على توفير الخدمات العامة وتوفير نظم التأمين الاجتماعي المختلفة، والسياسات التعليمية والصحية التي تزيد كفاءة الحماية الاجتماعية. وبيّن مأزق التصورات التي تتجاهل نظم الحماية الاجتماعية، واصفًا التقارير التي بينت تقدم التنمية البشرية من خلال المعايير الضيقة المستخدمة بالخادعة حيث أن "حساب السرايا غير حساب القرايا". وشدد على أن الربيع العربي بحسب دراسات كثيرة كان باعثه عدم رضى متنام ومتسع عن نوعية الحياة؛ ذلك أن معدلات البطالة بين الشباب تقفز إلى مستويات مقلقة، ومظاهر الفقر واللامساواة المتعاظمة، والخلافات على الموارد تلهب الصراعات.

وبيّن د. الزاغة ضرورة تطبيق أنظمة أرضية الحماية الاجتماعية في البلدان العربية بشكل حقيقي لاستيعاب معدلات نمو سكاني هي الأعلى في العالم. ونقد نماذج للأنظمة المطبقة عربيًا من خلال مقارنتها بغيرها حول العالم، ناعيًا على الأولى أنها لم تزل تدفع جهة تكريس اللامساواة وتفاقم التمايزات بين الناس. واقترح توجهًا إصلاحيًا استعرض ملامحه، ومنه إعادة النظر في برامج الإعانات الحكومية، خصوصًا الموجهة لدعم الطاقة، وإعادة توجيه مواردها لتشكيل أرضية لنظم الحماية الاجتماعية. ونوه إلى ضرورة أن يتم ذلك عبر عملية متدرجة وتتطلب التعاون الإقليمي والدولي، وتأخذ في حسبانها الاستهداف الذكي لمصالح الفقراء، وخفض الكلفة على غيرهم من المتأثرين بتغيير منظومة الدعم. ونبّه إلى أن عملية كهذه معقدة ودقيقة، تحتاج إلى أن تجرى على وجهها الصحيح، لتجنب الغضب الشعبي، وأن يتم ذلك عبر حوار مجتمعي واسع، وتوافق حول أولويات الإصلاح ونطاقه. كما جادل د. الزاغة بأن الأمر يتعلق بإعادة تعريف لأولويات الإتفاق العام أكثر مما يتعلق بتوفير موارد جديدة في أغلب الدول العربية. كما جادل لجعل موضوع الكفاح الشعبي في سبيل السلع العامة كأساس لتحالف واسع للعيش بكرامة في العالم العربي. ومع أن العديد من الأنظمة العربية استفاق أخيرا وأدرك الحاجة لعقد اجتماعي جديد بين هذه الدول ومواطنيها، إلا أن الجهود المبذولة لا تزال غير كافية وبعيدة عن الاستدامة.