بين الأمل والألـم – أزمة جامعة بيرزيت

بقلم د. حنا ناصر رئيس مجلس أمناء الجامعة

 

مررت اليوم بالقرب من حرم جامعة بيرزيت وشهدتُ الإغلاقَ المحكم الذي قام به طلبةُ الجامعة (مجلس طلبتها بشكل محدد) احتجاجاً على رفع الأقساط على طلبة السنة الأولى والرسوم (رسوم التأمين الصحي والانترنت.. إلخ ) على جميع الطلبة. 
تذكرت مطلع السبعينيات – اي قبل حوالي 40 عاماً عندما قررت "كلية بيرزيت" تطوير نفسها لتصبح جامعة. وأذكر العقبات الكبيرة التي واجهت الجامعة في هذه العملية. وكان الأمل كبيراً أن ننجح في المسيرة – رغم المعيقات الكثيرة. وكان الغرض الأساسي توفير تعليم جامعي للطلبة داخل الوطن حتى نحد من هجرتهم للخارج للتعلم، إذ كان كل طالب يخرج من البلاد يجد صعوبة في العودة لأسباب "أمنية" أو لأنه – بمحض إرادته ارتاح على الحرية أكثر في الخارج. كما كان الغرض من إقامة الجامعة توفير الأموال على الطلبة أو أهاليهم. فكل طالب يدرس في الخارج كان يكلف أهله مبلغاً كبيراً نسبياً - حتى ولو كان على منحة دراسية. فهنالك السفر ومشقة الجسر، وهنالك المعيشة في الغربة وما شابه. وبالتالي كان قرار تطوير الكلية قراراً استراتيجياً تربوياً ووطنياً بكل معنى الكلمة. وقد نجحت جامعة بيرزيت نجاحاً كبيراً في مخطط التطوير. وفي الوقت ذاته عانت ما يكفي من المعاناة – هي والطلبة والعاملون فيها من إجراءات الاحتلال. ولكنها صمدت وصمد الطلبة وصمد العاملون وأصبحت جامعة بيرزيت صرحا هاما يشار إليه بالبنان في صموده وصمود أبنائه، وتخرج منها الكثيرون الذين أصبحوا قياديين في مراكز عملهم في فلسطين. (ولم تقتصر التجربة على "بيرزيت" بل تعدتها إلى الكثير من المؤسسات التي تطورت لتصبح فلسطين مكاناً يمكن للطالب الفلسطيني أن يحصل على درجته العلمية الأولى، على الأقل، في أي تخصص يرغبه). وانخرطت الجامعة في عملية ديمقراطية لإنشاء مجالس طلبة – وكانت الانتخابات الطلابية مؤشراً هاماً على الوضع السياسي في الوطن. هذه هي الصورة المشرقة التي أذكرها دائماً – تعليم وحيوية وديمقراطية ورأي وتعبير حر وحوار ونقاش وفي النهاية تنتهي الأمور إلى أفضل ما كانت عليه سابقاً. هذه هي الجامعات الفلسطينية، وهي الأمل الباسم في منطقة يشوبها إحباط كبير بسبب الاحتلال الغاشم على صدورنا منذ سنوات طويلة وبسبب الانقسام الداخلي الذي بدأ ينخر في جسمنا دون هوادة. 
وبالرغم من هذه النظرة المشرقة في عملية تطوير الجامعة إلا أن الألم يعتصرنا ونحن نرى جامعة مثل جامعة بيرزيت مغلقة من قِبل أبنائها أنفسهم. يقول بعض الناس إن مجلس الطلبة يسيّس الموضوع المتعلق بارتفاع الأقساط، ولكنني أشعر مع الطلبة في محنتهم، فهم حساسون إلى أبعد درجات الحساسية من ارتفاع الأقساط، وهم مقتنعون أن "معركة" الأقساط هي معركتهم الحقيقية، ولا معركة دونها في داخل الجامعة، ولكن للحق فإنها ليست "معركة" وإنما مشكلة، فالمعارك هي فقط بين الأعداء، ونحن جميعا أبناء عائلة واحدة – هي عائلة جامعة بيرزيت. 
هذا هو الواقع الذي يجب ان تتعامل معه الجامعة وتفتـح حواراً جاداً مع الطلبة وتبين لهم أبعادَ رفع الأقساط ومبرراته. فتكاليف التعليم – مثلها مثل معظم الخدمات تزداد سنوياً. ولكن ما هو أكثر أهمية هو التوضيح أن رفع الأقساط سيؤثر على الطلبة الجدد فقط والمقتدرين منهم، أما الطلبة الذين يحتاجون إلى مساعدات فإن الجامعة على استعداد – كما كانت تبين وتؤكد دائماً - لتوفير مساعدات لهم. وبهذا الأسلوب تستقيم المعادلة وتنتظم العملية التربوية، ويتكافل الجميع – اي المقتدر يساعد غير المقتدر. وقد يبدو ذلك تبسيطاً للمشكلة ولكن قد يكون هذا هو الأسلوب الناجح والناجع لحل بعض قضايا التعليم العالي المالية. وربما يمكن لمجلس الطلبة النظر إلى موضوع رفع الأقساط من هذه الزاوية والعمل ضمن هذا المفهوم لتقبل الوضع وحتى الدفاع عنه. ويجب حينها أن يعي الجميع أن ذلك لا يعتبر تخاذلا من الحركة الطلابية، ولكن مساهمة منهم في الحلول الإيجابية لاستمرار العملية التربوية التي من أجلها وجدت الجامعة. 
والبعض يلوم الجامعة أحيانا ويتساءل لماذا لا تنشط في جمع التبرعات وتحل مشكلة الأقساط بشكل دائم. والحقيقة أن الجامعة تنشط في مجال التبرعات، ولولا هذا النشاط المتواصل لما تم بناء الحرم الجامعي وأبنيته المتعددة، ولما تم إنشاء بعض البرامج المدعومة بشكل خاص، ولما حصل الكثيرون من الطلبة على منح دراسية. والجدير بالذكر هنا أن الجامعة تعتمد في موازنتها على ثلاثة موارد رئيسية: أقساط الطلبة، التبرعات ومخصصات السلطة. ولسوء الحظ انخفضت مخصصات السلطة بشكل كبير وأصبح الاعتماد أكبر على الأقساط والتبرعات. وعلى المواطنين والطلبة أن يتفهموا مأزق السلطة السياسي، ونحن جميعا نعيش هذا المأزق. وعلى هذا الأساس فإن استراتيجية الجامعة في رفع الأقساط مبنية على معالجة الوضع ضمن الإمكانات المتاحة دون الإضرار بمصالح أي طالب غير مقتدر. نعم إنها استراتيجية شفافة لا يشوبها شائب وضمن إمكانات الجامعة وإمكانات الطلبة أنفسهم. 
إنني مدرك لأبعاد رفع الأقساط ولكنني أتوقع من الجميع أن يعي مسؤولياته في خضم الإغلاق القسري. فلا يمكن لفئة من مجتمع الجامعة أن تأخذ الأمر بيدها وتمنع، تحت أية ذرائع، أساتذة وموظفي وطلبة الجامعة من الدخول إلى حرم الجامعة. وأشعر بألم كبير أن يحدث هذا، وآمل أن لا يستغل أحدٌ النهجَ الديمقراطي الذي سارت عليه الجامعة منذ نشأتها. كما آمل أن تقوم كل فئات الجامعة بالمساهمة في تقريب وجهات النظر – حتى تنجلي هذه الغيمة المريرة. فأمامنا مسؤوليات تربوية ووطنية كبيرة. فهنالك عشرة آلاف طالب وطالبة – نعم عشرة آلاف من الطلبة تواقون لاستكمال دراستهم في جامعة بيرزيت. فهل تبقى أبواب الجامعة مغلقة ويفقد الطلبة الأمل في استكمال دراستهم في جامعة بيرزيت أو تفتح أبواب الجامعة لهم وتستقبلهم وتجدد الأمل لديهم؟. إن رسالة الجامعة واضحة وصريحة – أن تبقى أبوابها مفتوحة دوماً وأبداً لأداء مسؤولياتها الوطنية والتربوية.

صحيفة الأيام، 26 تموز 2012