زياد والجامعة: حكاية حب عمرها 30 عاما

جلست أمامه ادقق ملامح وجهه. فبدا لوحة زيتية مرسومة بماء سنوات عمره الستين. وجنيتن يتوسطهما "غمازات" تجذب الأنظار وتضفي جمالا على لون وجهه المحمر.

كان السواد يطلي اسفل عينيه وكأن ريشة مرت من هنا وزينته بروتوش مخملية. وفي أعلى الرأس، حقل ثلج. لون  أبيض غطاه بالكامل ولم يترك سوى مساحة قليلة جدا لبعض الفراغات التي ظهرت مثل تلة صحراوية.

مشهد اللقاء بيننا كان بمثابة سيمفونية. تزداد تألقا كلما طال وقت العزف. النغمة الاولى بدأت عندما دخل جامعة بيرزيت مدرسا قبل أكثر من ٣٠ عاما. وتوالت حياته فيها مثل سلم موسيقي. وكان كلما تحدث احسست بهزة خفيفة اسفل الكرسي. كان الصوت خشنا وجهورا وعذبا، وفيه لحن عميق، يقصّ بحرارة تاريخا طويلا وحكاية جميلة أشبه بأغنية فيروزية.

يعزف زياد فصول هذه السيمفونية عن جامعة بيرزيت من خلال صوره. فالرجل إلى جانب عمله مدرسا للفيزياء في الجامعة منذ ٣٠ عاما، يحترف التصوير. يوثق كل شيء بنظرة " العالــِم". يوثق الحب والحياة والجمال، يوثق الأمل، يوثق الهدوء في طبيعة عاصفة وحياة سياسية مليئة بالتعقيد.

مشيت معه في حديقة منزله بعد ان تناولنا كوبا من الشاي. غطت حرارة الماء الدافيء على برودة المكان. وعم صمت وسكون، تخلله صوت طرطقة غالق الكاميرا. كنت كلما اسمع الصوت القادم من تحت اصبعه اشعر بوخزة في جسدي. كانت كل صورة معادلة. وفي كل معادلة حكاية.

في الصورة يظهر د. زياد عزت في إحدى المعارض الفنية في الجامعة. المصدر من الأرشيف.

مدد جسده على الارض. وجاء بعدسة الكاميرا إلى اقرب نقطة من شجرة الصبار في باحة منزله. كان يقترب منها وكأنها عشيقة. لوهلة تخيلته يريد تقبيلها. كان بطيئا وثقيلا ومتأنيا. لم يكن يضغط على "زناد" الكاميرا إلا " عند اللحظة الحاسمة" وفي النهاية اسمع صوت الطرطقة. كلما اخذ صورة اقترب مني ووضع الشاشة في عيني" انظر. هذه القطرات تبعث الروح في الجسد الميت".

يهوى زياد الصور. يقول إنها تحكي كل شيء لا نريده. لكنه لا يصور صورا عاديا. فهو دائما يبحث عن المختلف. يقول إن حياته في الجامعة زرعت فيه حب الهدوء. وحب الحب. وحب الصور. يقول إنه " يعشق الفيزياء بعدسة الكاميرا. ويعشق الكاميرا بعدسة جامعة بيرزيت". هذا الحب كما يقول نشأ معه منذ عاش يومه الأول في الجامعة، ومنذ اللحظة الاولى تعززت لديه فكرة التوثيق. كل مرحلة في هذه الجامعة لها حكاية عكستها صوره. فمرة تراه يصور طبيعة  فلسطين الخلابة، وفيها يرى جمال الجامعة. ومرة يرصد حياة الزهور البرية، وكأنهم طلبتها، ومرة يصور قطرات الندى المتجذرة مثل الجامعة فوق هذه الأرض . ثم تراه يصور الغروب. البوم كامل يروي كيف يحصل الغروب" غروب الشمس وغروب العمر".

تطورت حياة زياد كما تطورت حياة الجامعة " دخلتها شابا يافعا مغامرا، وبدأت اكبر معها. لكنها سبقتني بكثير. وهذا ما يسعدني. الغروب يطل علينا معا، ويشرق علينا معا، وسيبقى مشرقا عليها".

يجمع زياد مواهب كثيرة. فهو مصور محترف. وشاعر. يكتب كلماته بحرارة. تغزل في الجامعة كثيرة. يقول إن كل حياته تمحورت حولها. لم يكن يوما قادرا على العيش خارج أحضانها.

كنا ما زلنا نتجول حول المنزل نبحث عن قطرة هنا أو هناك. كان يقفز مثل طفل اهداه والداه لعبة، كلما التقطت مشهدا احبه.

نظرت في احدى صوره شعرت بهدوء غريب. هدوء يبحث في جذور النباتات عن قطرات الندى. كان عميقا جدا، لا متناهي، كان مثل السيموفنية. يشتد كلما تمعنت اكثر.  

رغم انه يحمل درجة الماجستير في الفيزياء، و يدرّس هذه المادة منذ دخل الجامعة، واظب زيادة على مواصلة علمه. لكن في مجال آخر. ذهب إلى بيروت لدراسة " التربية اللا عنفية، وتعزيز ثقافة اللاعنف". كنت كلما انظر اليه اقرأ في وجهه ذلك السلام. كان فعلا الشخص المناسب ليكتب للناس عن اللاعنف. عطر الحياة. كتاب الشعر خاصته. مليء بالحب واللاعنف والتسامح. سألته إن كانت هذه الافكار وليدة اللحظة. أم انها تراكمية. فقال لي ضاحكا" لقد تربيت في مكان يزرع هذا الشيء. في الجامعة نقبل بعضنا الآخر. رغم الاختلاف لا نكره. ونجلس في نهاية اليوم على طاولة واحدة نحتسي القهوة ونضحك".

يقول زياد إن حياته كلها بدأت وانتهت في الجامعة. فبعد التقاعد من التدريس لم يستطع أن يغادرها. وعاد إليها بعقد جزئي مشرفا ومستشارا " إن خرجت منها اختنقت. هي هواء اتنفسه".

انتهى من تصوير قطرات الندى. وجلسنا مرة أخرى على الطاولة نتبادل اطراف الحديث. كلما فتحنا موضوعا، عاد وذكر اسم الجامعة مرة ومرتين وثلاثَ. كان يقول لي بين الجملة والأخرى " في بيرزيت كنا نعمل، واليوم صاروا يعملون … "

ليس غريبا أن يبقى قلبه معلقا فيها. فهو جاء اليها طفلا وغادرها كهلا. وهي مكان يقبل الكل. ويحب الكل. نظرت اليه نظرة الباحث عن اجابات عن سبب " الحب الزائد للجامعة". لأجيب على السؤال بنفسي. تذكرت كل ايامي فيها. منذ دخلتها طفلا وخرجت منها متأخرا عن موعد دفعتي سنتين.

في البداية وانا طالب كنت اكره الذهاب إليها. لأني كنت كسولا. وكنت اميل إلى النوم أكثر. لكن وبعدما تخرجت منها. زرتها كثيرا. ففيها اكتسبت الكثير. وحين دق هاتفي مرة، وطلب مني ان اعمل فيها. طرت من الفرحة. تحول كل الكره الزائف إلى عشق. ثم قررت أن ابقى فيها. وقررت أن اقلد زياد لأني احسده على هذا الحب. واحاول اليوم أن احبها اكثر منه. ويا ليتني استطيع.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.