صور من سحر بيرزيت

ما ستقرأه أدناه يخص كل أسرة جامعة بيرزيت العظيمة في الفترة ما بين عام 1999 ولغاية 2005 مع بعض الاستثناءات.

كان عدد طلاب الجامعة آنذاك قليل جداً، لا أعتقده يزيد عن أربعة ألاف ونيف، نعرف بعضنا جميعاً للضرورة، بالشكل على الاقل، ونميز الضيوف والطلبة الجدد والمتسللين. كلنا تقريباً سكنا بلدة بيرزيت ذكوراً وإناثا، حتى أبناء الجلزون وسردا بالتالي نحن أسرة شئنا أم أبينا.

أبناء هذا الجيل يعرفون دون مبالغة كل حجر في الطريق ما بين فندق "البيست ايسترن" وحتى كازية حيفا، ركب كل واحد منهم الحنطور ولو لمرة، ولدى دماغه علاقة تصالحية مع رائحة روث البغال. أغلبنا وصل الجامعة بحذاء ممزق مرة واحدة على الأقل، ومبلل الملابس مرات عديدة. وتمنى يوماً أن يركب مواصلة واحدة من رام الله وحتى الجامعة، وأوشك على البكاء حين سمح الاحتلال بذلك لأول مرة. الجميع ركب المرسيدس التي كنا نسميها "التابوت" ودعا الله ألا يكون من ركاب الكرسي الأخير أو الأوسط الى جانب الباب. كنا نحب ركوب باص الجامعة الأحمر شديد القدم في المساء لا في الصباح. الباص بطئ جداً ومحاضرة الثامنة لا تحتمل التأخير.

أغلب هؤلاء بلا شك كان لهم مفاتيح بريد صغيرة يستلمونها عند القبول. في البريد تودع جداولنا ومطالباتنا المالية وبعض الأشياء الأخرى على شكل أوراق مخرمة تشبه فاتورة الكهرباء. مكتب البريد تحت مبنى الإدارة في دهليز مظلم نزوره في المناسبات فقط.

أبناء هذا الجيل مخضرمين، عاشوا انفصاماً شديداً ونقلة نوعية مرعبة بين جداول الامتحانات الموزعة على ألواح في الكليات، وعاصروا السحب والاضافة على نماذج ورقية، ثم صدمهم "ريتاج" المبهر حين حضر، جلهم جهلوا طريقة الولوج إليه لولا الاستعانة بصديق عبقري على علاقة وطيدة بالكمبيوتر.

سياسياً الغالبية العظمى من أبناء هذه السنوات كانوا نشطاء. من دخل عام 2000 ورحل قبل 2003 لسبب أو لآخر لم يشهد أي انتخابات لمجلس الطلبة، مع ذلك كانت الكتل الطلابية نشيطة والطلبة بخير دون مجلس. 

سيارة رئيس الجامعة كانت "جولف" خضراء وعلى مقربة منها عند سور "البوك ستور" باص أصفر دائم الوقوف هناك. أبعد نقطة في الجامعة آنذاك كانت المجمع وبعدها ممر ترابي يؤدي إلى المجهول الى أن بنوا مبنى الرياضة لاحقاً. قبالة "البوك ستور" ثمة ملعب كرة السلة، كان المئات يجتمعون للتشجيع في مباريات تجري عصراً كأحد أهم وسائل الترفيه في الجامعة. طلبة الآداب كانوا عالة على التجارة وليس لهم كلية مستقلة كغيرهم، وحديقة العلوم تزخر بالطلاب دوماً.

كل أبناء هذه الحقبة يعرفون كافتيريا العلوم ويدفعون كل ما في جيوبهم الآن لتناول شطيرة شنيتسل أو همبورجر مصنوع على طريقة الرجل الطيب "ابو عبد الله" أو كيس بندق من تغليفه، ويعرفون للضرورة السيدة خولة متضمنة المجمع وعلى علاقة وطيدة بكأس القهوة الأبيض المصنوع من الفلين الذي تملأه بنفسك وغالباً ما تتسخ ملابسك لأنه غير صديق لحرارة القهوة.

في المجمع كان هناك صفين للشراء، الأول القريب من البوابة دائما مقفل يفتحونه في المناسبات ونشتري دائماً من الصف الثاني لا أدري ما السبب. ولا ننسى شطيرة الجبنة البيضاء بالكعك المعدة على "التوست". أغلبكم الآن يتخيل شكل المجمع ويستطيع تذكر أشكال الطلاب على كل طاولة ولا سيما الطاولات الأولى والأخيرة وقرب النوافذ.

علم آخر في المجمع كان الحاج صاحب ركن السجائر والشوكولاتة، بشوش ولحيته بيضاء. الجميلات دائمات التواجد أينما وجدت الشكولاته، يمازحن العم ويرد عليهن بابتسامة وحنان ولطف. أيامها كانت علبة سجائر الـ LM بعشرة شواقل فقط.

ليس فينا من لا يتذكر أصوات نغمات هاتف البشار والأرنوب تصدح هنا وهناك، أو غرفة هاتف الشيكل قرب المجلس، أو دوي ماكينات التصوير عند فاتح في التجارة. كلنا كنا نكره مادة الحاسوب 101 ونعتبرها من شرور الزمن، باستثناء طلبة الكمبيوتر والهندسة المدللين الذين كان لهم مختبرهم الخاص ولنا نحن الآخرين مختبر العلوم تحت الأرض ونكره زيارته.

كل هؤلاء يتذكرون لون كتاب الانجليزي مستوى B الأخضر، ومستوى A الرمادي، وكتاب الـCS العربية الأزرق، والأوروبية الأصفر. كل هؤلاء كانوا على معرفة بالفورد البيضاء أو الزرقاء التي تقلك حتى أي حارة في بلدة بيرزيت بشيكل واحد فقط. وعلى ذكر بيرزيت، مطعم الباشا والساهرية و بيت الحجر و أبو ستيف وزينة وبلو وفطوطة والحوش وكراج أبو صالح والهوستل والساحل واشتئتلك ودير اللاتين وناصر مركز الجامعة ووسيم بروستد والموناليزا وسليمان حرب أسماء تعرفونها جميعاً. 

الغالبية العظمى من شبان وشابات هذه السنوات شاركوا في رمي الحجارة على دوريات الاحتلال. وتنظيم اعتصامات ومسيرات ضده. لا يختلف أحد من هؤلاء على حب واحترام حراس الجامعة لا بد لذلك أن يقال.

كل أبناء تلك الفترة يحبون بيرزيت أكثر من أي شيء آخر. كلهم يعيشون ذكريات جميلة بعد قراءة هذه السطور، ليس بسبب ذكائي أنا بل لسحر بيرزيت. كلهم رواد في مواقعهم و أفتخر بهم أينما حللت. بيرزيت أكثر من مجرد جامعة.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.