ما بعد مؤتمر فتح

لم يعد من الممكن استمرار تجاهل تأثير تطورات ثلاثة هامة، نقلت القضية الفلسطينية الى بيئة سياسية جديدة، أقل ملاءمة وأكثر تحديات، تقتضي اعادة النظر بأداء وادوات العمل السياسي الفلسطيني بشكل جذري.

أولها تداعي او انهيار النظام العربي، وثانيها التحولات الجذرية التي حصلت مؤخرا في اسرائيل، والثالث انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الامريكية.

فما يجري من احداث وتغيرات جسيمة في العالم العربي، يجعله اقل قدرة، بما لا يقاس، على أن يقدم الدعم الضروري للشعب الفلسطيني، وبالرغم من تحفظات هنا وهناك على بعض جوانب العلاقات الفلسطينية-العربية، الا ان الشعوب العربية، وفي احيان كثيرة الحكومات العربية، شكلت حاضنة داعمة للنضال الفلسطيني في محطاته الاساسية.

فمنظمة التحرير نشأت بدعم الانظمة الثورية المعادية لإسرائيل في حينه، والعمل الفدائي الفلسطيني انطلق في سنواته الاولى من بلدان عربية مجاورة، والانجازات الدبلوماسية الفلسطينية كانت بدعم عربي، بدءا بعلاقة فتح مع الصين بمساعدة الجزائر، ثم علاقة المنظمة مع الاتحاد السوفياتي بوساطة مصر، والتمثيل الفلسطيني في العواصم الغربية من خلال مكاتب جامعة الدول العربية في السبعينيات، اضافة للقرارات الاممية الهامة التي لعبت فيها المجموعة العربية دورا اساسيا.

وصحيح ان الولايات المتحدة، بما فيها ادارتها الحالية، دعمت اسرائيل المحتلة بالحد الاقصى الممكن، بما فيه منع العالم حتى من ادانة استيطانها وانتهاكاتها الاخرى للقانون الدولي، فإن انتخاب ترامب سيهيئ لعلاقة أكثر انسجاما بين ترامب ونتنياهو، الذي توقع في تصريح له أمس ان تكون علاقات اسرائيل مع ترامب "دافئة"، الامر الذي يذكرنا بالعلاقات الدافئة بين نتنياهو فلاديمير بوتين، الذي عبر ترامب في اثناء حملته الانتخابية عن الاعجاب به.

أما إسرائيل، فلم تعد هي التي تفاوضت منظمة التحرير معها قبل خمس وعشرين عاما، فقد تغيرت بنيتها الاجتماعية-الاقتصادية، وكذلك الديمغرافية، واصبحت تخضع لما اسماه سامي ميخائيل في يديعوت احرنوت بـ "الثالوث الدنس، المتمثل بالحكم الفاسد والمال البالع والدين العنيف"، وأصبح أكثر من نصف اعضاء مجلس وزرائها يجاهرون برفض حل الدولتين حسب ما قال أقرب اصدقائهم جون كيري في لقائه الاخير في مؤسسة تسابان في واشنطن، واصبحت اولويتها الاولى حسب أوري سافير في هآرتس دفن حل الدولتين من خلال تسونامي الاستيطان.

استنتاجان اساسيان من هذا الواقع المتغير من حولنا، الاول، ان افاق الحل الذي يؤمن انهاء الاحتلال من خلال المفاوضات الثنائية مع إسرائيل غير وارد في المدى المنظور، مما يحتم علينا البحث عن مقاربات سياسية جديدة، والثاني، ان العوامل الخارجية، العربية والدولية والاسرائيلية غير مواتية مما يتطلب التركيز على العوامل الذاتية، مع المحافظة على القدر المحدود المتاح من الدعم الخارجي، بما فيه الدعم الشعبي.

هل يمكن للنخب السياسية الفلسطينية الانتقال من وصف الحال الى التصرف والسلوك بناء عليه ؟ ذلك ان وصف الوضع، وما "ينبغي" ان يكون، هو من اختصاص الاساتذة والأكاديميين، أما السياسيون، فمهمتهم العمل على تغيير الواقع بدل وصفة.

على المستوى الذاتي، بعد ان انتهى مؤتمر فتح بانتخاب قيادة جديدة للسنوات القادمة، وبعد ان اكدت تلك القيادة ان هذا المؤتمر نجح في تجديد شرعيتها واعطاها دفعة جديدة وحقق لها الاستقرار المطلوب، هل يحق لشعبنا ان يطمح بان تعم هذه الفائدة عليه من خلال التعامل مع الاستحقاقات الانتخابية الاخرى؟ بما فيه انتخابات المجالس البلدية والمجلس الوطني لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي للسلطة الوطنية وغيره ؟

ومن أجل تعزيز البعد الذاتي، من المهم أيضاً أن تولى القيادة السياسية مزيدا من الاهتمام بالاستحقاق الثاني المتعلق بأداء المؤسسات العامة، وخاصة الخدمية بعد التراجع اللافت في مجال الخدمات الاساسية، التعليمية والصحية، ذلك اضافة للمرافق الاقتصادية، حيث تسجل مؤشراتها، خاصة البطالة، معدلات متصاعدة؟ ثم مرفق العدالة الذي يترنح على وقع الاشاعات (التي مازلنا نأمل نفيها رسميا)، والمتعلقة بتوقيع بعض رؤوسه على استقالات مسبقة، لضمان ولائهم للسلطة التنفيذية!

أما على المستوى السياسي فالمقاربة التي تلائم المعطيات الجديدة تشمل استبدال استراتيجية المفاوضات الثنائية بالدبلوماسية الدولية، وجعل القانون الدولي والمؤسسات الدولية حلبات صراع مع المحتل.

يوازي ذلك، تفاعل وتكامل بين هذه الدبلوماسية الدولية وبين الدبلوماسية الشعبية التي تسعى الى مقاطعة اسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات الخارجية منها.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.