التعليم وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز .. وعود التكنولوجيا وبلاغة الأنسنة

في مقال نشره في مجلة "Science" (1)، وفي معرض الإجابة على سؤال "ما هو أكثر شيء ستفتقده؟" يجيب أحد الأساتذة الذي وصل لسن التقاعد "سأفتقد إبداع التدريس"، ويضيف بأن تلك الاجابة لم تكن لتخطر على باله عند بداية مهنته كأستاذ جامعي قبل 30 عامًا، كونه كان يعتقد حينئذ أن مكان الخيال والابداع ليس الفصول الدراسية، وإنما المختبر، حيث البحث والابتكار. مرت السنوات ليدرك لاحقاً كم كان مخطئًا .. التعليم هو تحدي ايقاظ الابداع لدى المتعلم، وينبغي إيلاؤه ما يستحق من جدية وتجديد.

  • التعليم يقتضي التجديد

لطالما نظر كثيرون لعملية التعليم كنشاط روتيني يشمل معلمين ومتعلمين وسبورة وطبشورة لعرض المقررات. جاء الحاسوب فتراجع دور السبورة لصالح الملفات الالكترونية، تغيرت لحد ما طريقة عرض المادة التعليمية ولكن لم يطرأ تغيير كبير على طبيعة الأدوار للمعلم وللمتعلم. خلال العقدين الأخيرين قفزت التكنولوجيا بالأدوات التعليمية لآفاق جديدة، وولد جيل جديد منغمس رقمياً (يسمى جيل Z)، لا يوجد لديه أدنى فكرة عن عالم ما قبل الانترنت والموبايل، تطورت تكنولوجيا المعلومات والتعليم بشكل متسارع وأصبح لزاماً بالتالي تطوير أدوار المعلم والمتعلم بما يتوائم مع سهولة الوصول للمعلومة من جهة، ومع تحدي توظيف تلك المعلومة في انتاج معلومة جديدة من جهة أخرى. هذا التحدي أصبح يلقي على كاهل الأستاذ الجامعي مهمة التطوير الذاتي المتواصل، ليس فقط في باب استخدام التكنولوجيا وتطويع ذلك في عرض المحتوى، وإنما أيضاً في باب الاستجابة لتوقعات جيل يرى العالم من خلال شاشة الموبايل، وتضاءلت المسافة بينه وبين المعلومة لتصبح على بعد نقرة. وهذا يتطلب بلورة "بيداغوجيا" تربوية ملائمة لتعقيدات تقاطع العملية التعليمية مع مؤثرات اجتماعية واقتصادية ونفسية يفرضها التطور التكنولوجي المتواصل في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات ضمن الحيز الاجتماعي والحياتي.

في هذا الإطار، تتنامى باطراد امكانيات تطوير العملية التعليمية من خلال الاستفادة من الزخم الكبير الذي توفره تكنولوجيا المعلومات، وتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، والتي تجعل من التعليم عابراً لحواجز الزمان والمكان، وتنقل البيئة التعليمية من وضعية السردية والتخيل إلى آفاق تجسيدية مرئية ومسموعة، تزخر بالتفاعل وبالتشويق.

  • الواقع الافتراضي والواقع المعزز

يقول مثل انجليزي "الصورة تساوي ألف كلمة"، وفاعلية الصورة في ايصال الفكرة تجعل للتقنيات التصويرية دوراً محورياً في العملية التعليمية. انقضى الوقت الذي يحتاج فيه المعلم لمسح عرقه من وقت لآخر أثناء حرصه على رسم تفاصيل الخلية أو المركبات الكيميائية أو تفاصيل الخارطة الجغرافية، وأصبحت الوسائل التعليمية تزخر بالمجسمات ثلاثية الأبعاد وبالفيديوهات التوضيحية. من ناحية تقنية، يستخدم تعبير "الواقع الافتراضي- Virtual Reality" لوصف عالم تمت برمجته بالكامل بشكل ثلاثي الأبعاد، يستطيع المستخدم الولوج إليه باستخدام نظارة أو سماعة رأس، تسمح له بالحصول على تجربة شعورية وافية من خلال رؤية الأشياء وإمكانية التفاعل مع ما يدور حوله باللمس وغيره. وكمثال على ذلك، يمكن للمتعلم التجول في مجسمات افتراضية للمواقع الأثرية حول العالم والتعرف على أدق تفاصيلها، دون أن يبرح مكانه. كما يمكنه التعرف على الفضاء الخارجي والتجول بين الكواكب أو في عوالم الديناصورات في واقع افتراضي كامل غني بالتفاصيل وبالتشويق.

من جانب آخر يستخدم تعبير "الواقع المعزز-Augmented Reality" لوصف دمج البيئة الفيزيائية المحيطة مع البرمجيات الالكترونية بحيث تقوم تلك البرمجيات باعطاء معلومات تفصيلية أو مجسمات أو صور وفيديوهات عن عناصر تلك البيئة، وذلك باستخدام الأجهزة اللوحية أو الهواتف الذكية. ويهدف ذلك لإضفاء الحيوية والتفاعلية على المحتوى التعليمي، ومساعدة المتعلم على بناء صورة ذهنية أكثر وضوحاً وتفصيلاً. وكمثال على ذلك، يمكن للبرمجيات المناسبة أن تتيح لطالب الكيمياء التعرف على الخواص الفيزيائية والكيميائية لعنصر ما في الجدول الدوري بشكل تصويري بمجرد تمرير الهاتف الذكي فوق رمز ذلك العنصر. كما يمكن أن يتم ارتداء عدسات أو نظارات خاصة تتيح للمتعلم أن يرى مجسمات ثلاثية الأبعاد لأعضاء الجسم الداخلية مثلاً عند قراءة النص الذي يصفها في الكتب الالكترونية التفاعلية.

  • ما هي فوائد الواقع الافتراضي والواقع المعزز للعملية التعليمية؟

الاستثمار في تكنولوجيا الواقع الافتراضي والواقع المعزز في العملية التعليمية آخذ في النمو بشكل كبير، من مرحلة التمهيدي وحتى الدراسة الجامعية، وذلك يرتكز على سمات وفوائد أساسية متعددة (2). فمع رؤية مجسمات بأدق تفاصيلها لا تعود هناك حاجة للتخيل، وهذا يقلص تأثير الفروق الفردية على عملية الفهم، ويحفز الفضول والرغبة في التعلم لدى قطاع أوسع من الطلبة. كذلك فهو يضفي على عملية التعلم صفة التسلية والاستمتاع. ولكون لغة المشهد واحدة حول العالم فهو يساهم في إزالة حاجز اختلاف اللغات، ويؤدي إلى توسيع نطاق البحث العلمي في تخصصات مختلفة.

كذلك فإن دعم العملية التعليمية بتكنولوجيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز له فوائد أخرى (3)، يمكن أن تتحقق دون مقايضة رصانة العملية التعليمية بالتسلية المتحصلة من مشاهدة الفيديوهات والصور والمؤثرات. فإيجاد بيئة تعلم تفاعلية محفزة، يمكن لها أن تؤمن للطلبة الفرصة ليس في التعلم النشط فحسب، بل وفي المشاركة في عملية إنشاء المحتوى التعليمي. هذا النهج يمكن أن يقود لتحسين الذاكرة من خلال إضفاء الحيوية على الدروس، وأن يساهم كذلك في التطور الحسي التفاعلي. أضف إلى ذلك أن رقمنة المحتوى التعليمي من شأنها التخفيف من استهلاك المصادر البيئية وخفض التكاليف التعليمية عن طريق الحد من طباعة الكتب والدفاتر وتقليل استخدام الأقلام والأصباغ المختلفة، بالاضافة الى إمكانية القيام بتدريبات وتجارب مخبرية مختلفة دون هدر للمواد أو تلويث للبيئة.

أما أهم التحديات التي تواجه ذلك فتتمثل بالحاجة لتدريب الأساتذة على أنماط التعليم والتقويم المرافقة لرقمنة المحتوى التعليمي وتبني البيداغوجيا التربوية اللازمة، بالاضافة إلى تخصيص ميزانيات ليست بالقليلة من أجل تأمين عملية التحول الرقمي والتربوي المطلوبة.

  • نعم للتكنولوجيا، ولكن دون مقايضة التواصل الانساني

قد يطول الحديث عن الإبداعات التقنية ويتم الاسهاب فيما يتم استحداثه من وسائل تعليمية، ولكن ذلك  لا يغني بأي حال عن الدور المحوري الذي يلعبه المعلم. إحدى الجامعات تدرج على موقعها عشر مواصفات للمعلم الجيد (4)؛  يتواصل بفاعلية، يستمع جيدًا، يركز على التعاون، قادر على التكيف مع المتغيرات، منخرط مع تلاميذه، يظهر التعاطف كلما اقتضى الأمر، يتمتع بالصبر، يقدر قيمة التعلم في العالم الحقيقي، يشارك مع من حوله الممارسات الفضلى، ويمارس التعلم مدى الحياة، وتلك ميزة يتخلى عنها كثيرون بمجرد الاستقرار في الوظيفة. بالتالي فإنه لا يمكن اختزال دور المعلم في إيصال المعلومات للطلبة، بل يقع على كاهله تحدي ايقاظ الابداع وفتح نوافذ المعرفة والتعلم الذاتي لدى المتعلم. وهذا لا يتأتى إلا من خلال موائمة التفاعل الانساني والذكاء العاطفي مع التكنولوجيا، وهو ما يتسق مع مقتضيات النظريات الحديثة للتعلم، ومنها النظرية البنائية (5)، التي تفترض أن المتعلم يبني معرفته داخلياً، متأثرا بالبيئة المحيطة به وبالمجتمع واللغة، وأن لعقل كل متعلم طريقة خاصة في فهم المعلومة، قد لا تنسجم مع ما يريده المعلم، مهما اجتهد في التلقين.

ختاماً، في تأكيد على محورية دور وشخصية المعلم، يقول الفيزيائي اللامع ريتشارد فاينمان بأن الطلبة لا يحتاجون معلماً مثالياً وإنما يحتاجون معلماً سعيداً، يجعلهم متحمسين للمجيء للمدرسة، وينمي فيهم حب التعلم.

 

  مراجع-

  1. https://www.science.org/content/article/how-i-learned-teach-scientist
  2. https://elearningindustry.com/augmented-reality-and-virtual-reality-transform-industry-education-5-ways
  3. https://online.maryville.edu/blog/augmented-reality-in-education/
  4. https://www.snhu.edu/about-us/newsroom/education/qualities-of-a-good-teacher
  5. https://www.new-educ.com/theories-dapprentissage-le-constructivisme

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.