المقاومة الملجومة: عندما يولِدُ الميتُ الحيَّ!

على مدار ثلاثة أيام متواصلة اجترعنا جميعاً ألم استشهاد شيرين أبو عاقلة، وفي كل مرة تغير فيها مشهد الاغتيال، والحديث عنه وبشأنه، زاد الألم وتضاعف. ثلاثة أيام وما زال هذا الألم على مقتلك قائماً يا شيرين. أيام من النحيب الذي لم أر مثله في حياتي في فلسطين! وعزاء مستمر حتى لحظة كتابة هذا المقال. أحاديث كثيرة دارت عن سبب الحزن المشترك والعميق والمفاجئ لكل منا؛ فقبل موتك كان هناك شعور عام يفيد بأن الوضع الفلسطيني وصل إلى مرحلة صعبة تبلّدت فيها المشاعر، حتى صار مشهد الفقد والظلم والقهر طبيعياً ومعتاداً. وجاء موتك ليبدّد كل هذا، وليعيد إحياءنا وليضيء لنا السراج! وليجمعنا لأول مرة على درجة الألم نفسها وبالطريقة نفسها. شعرنا كلنا، على اختلاف تياراتنا وأفكارنا وتوجهاتنا وأماكن وجودنا، بالصدمة والفقد الشديد والمرير لفرد من أفراد الأسرة، وهذا ليس تقليلاً من الصدمة والحزن على مَنْ استشهدوا من الفلسطينيين قبلك يا شيرين، لكنه تكثيف لهذه الصعقة والألم، ووقوف دقيقة صمت طويلة على مجموع من فقدناهم، كأن رحيلك كثّف فينا معنى الشهادة وكسر ما كان يُعتقد أنه أصبح عادياً. لقد ذكّرنا مرة أُخرى بأن "لا عادي"، حتى لو لحظياً، مع الاحتلال! قالت لي أختي التي تعيش في ألمانيا جملة استوقفتني: لقد كنّا في وقت ما نرى شيرين على الشاشة أكثر مما كنا نرى وجوهنا في المرآة. هكذا عنت شيرين بالذات لجيل التسعينيات، حين تسللت الفضائيات إلى حياتنا، وحين أصبحنا نستمع لأول مرة إلى وسائل إعلام توصل الرسالة الفلسطينية كما أردناها وكما هي قريبة من الواقع. فنحن جيل السبعينيات والثمانينيات، الذين كانت مصادر أخبارنا الرسمية من الإذاعات الإسرائيلية والأردنية والـ"بي بي سي" قبل التطور التكنولوجي وثورة الأقمار الصناعية التي جلبت معها خيارات ومصادر عديدة لتغطية الخبر، مثّلت لنا شيرين أبو عاقلة عبر شاشة "الجزيرة" الصوت الذي كان مخنوقاً في حلوقنا.

وفي اللحظة نفسها، وبالوتيرة نفسها أيضاً، كان الإعلام الإسرائيلي يغطّي حدث مقتلك يا شيرين بطريقة مغايرة؛ فقد جرت عدة محاولات لافتعال قصة القتل وخلق سيناريوهات متعلقة بالفلسطينيين ومسؤوليتهم عن مقتلك. وقد لفتني جداً ما قاله زميل لي خبير بالشأن الإسرائيلي عن أنه شعر كأن جميع الإسرائيليين الذين تمت استضافتهم في الإعلام للحديث عن شيرين، بالإضافة إلى المستضيفين والمذيعين أنفسهم، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي والتفاعل معها، متفقون ضمنياً على إنكار مقتل شيرين من جانب الاحتلال. وكأن لدى الإسرائيليين اتفاقاً ضمنياً وتواطؤاً مجتمعياً غير واع ضد رواية "الأغيار" (غوييم) التي تهدد بنيتهم الهوياتية ونسيج قصتهم أياً تكن، وكأنهم يتوافدون لدعم رواية محددة بعينها بغض النظر عن صحتها ما داموا موحدين ضد "الأغيار".  

ويبقى السؤال: كيف توجّعنا لرحيل شيرين إلى هذا الحد من دون أن نكون قد حسبنا حساباً لهذا الألم أو فكّرنا فيه؟ من أين أتت هذه الفاجعة الجمعية التي حمّلتنا جميعاً على قلب امرأة واحدة اسمها شيرين؟ وما هو دور الرموز، إن جاز التعبير، في حياة الشعوب ومسيرتها التحررية؟

قبل يومين من رحيل شيرين كنت أُدرّسُ طلابي عن مفهومَي العنف الملجوم والعنف المتفجر ومعناهما واستخداماتهما المتعددة في السياق الاستعماري الإسرائيلي، وكيف أن حاجزاً مفرغاً من الجنود وبرج مراقبة بدون كاميرات وبدون جنود هو عنف ملجوم يقترب إلى عنف محقق متفجر حتى لو لم تُستخدم البندقية، ولم يوقفنا الحاجز، ومن دون أن نعرف ما إذا كان في البرج رقيب أم لا. وأن جهاز الكمبيوتر الذي يحمل أسماءنا ومعلوماتنا عند ضابط الأمن الإسرائيلي هو أيضاً عنف ملجوم. وعلى الرغم من أن الإيذاء الجسدي والمادي لم يتحقق فوراً وبشكل مباشر في العنف الملجوم، فإن استمرارية وجود هذا الأخير وإمكان انقلابه الوشيك في أي لحظة إلى عنف مباشر متفجر من دون قواعد احتمال أو شيء من التوقعات، قد يجعل منه أحياناً أكثر لجماً وعنفواناً من العنف المتفجر، بل قد يعمل هذا العنف الملجوم أحياناً بطريقة أكثر "فاعلية" من العنف المتفجر، ومن الحرب المباشرة، على السيطرة على شعب لفترة من الزمن؛ هذا العنف حتى لو تم تعليقه فإن بعده الاحتمالي يبقى حاضراً. بعد يومين تحولت المقالة الأكاديمية التي قرأتها مع طلابي إلى واقع محقق، فها هو عنف إسرائيل الملجوم، في مرات عديدة، اتجاه الصحافيين قرر أن يتحول فجأة ومباغتة إلى عنف متفجر وقتل شيرين؛ قتلها من دون أن يكون هناك أي نوع من الاشتباك، أو أي مظاهر لأي مواجهات مسلحة، بل كان تمهيداً لاقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين وتصفية المقاومة. وعلى الرغم من أنها لم تكن الصحافية الفلسطينية الأولى التي تقتلها إسرائيل، فإن الصدمة حدثت من فكرة أن رحيلها فاق كل التوقعات حتى من عنف الاحتلال!  فكلما شعر الفلسطيني بأنه أصبح لديه شيء من عناصر التنبؤ بواقع الحياة اليومية، مثلاً: أي طريق يسلك؟ ومتى يمر عبر الفتحات؟ ومتى لا يمر؟ وفي أي ساعة يمر بالحاجز؟ ومتى يُغلق الأخير؟ ومتى يفتح؟ ومَنْ تعتقل إسرائيل؟ ومَنْ لا تعتقل؟ ومَنْ تقتل؟ ومَنْ لا تقتل؟ نتفاجأ في كل مرة ألاّ توقعات مع الاحتلال، وألاّ مجال للروتين و"المعروف" و"الطبيعي" اللحظي مع الاحتلال. ومهما تفعل، ومهما تكن "بعيداً" عن الهم العام، فأنت لست ببعيد عن الموت. كلنا مستهدفون في أي لحظة ودقيقة ووقت، وبأي طريقة، وبأي مكان، وبأي ادعاء؛ صدمة تحوّل العنف الملجوم بعيد الحصول إلى عنف متفجّر محقق، من دون أي تفسير، ومن دون مواجهات مسلحة، مع أن شيرين كانت ترتدي ملابس الصحافة الواضحة، جلجلت الكل الفلسطيني، وأشعرتنا بالإهانة المحدقة والاستباحة الكاملة. نعم، الإهانة هي التعبير الأكيد عما شعر به الفلسطيني وكبّله من الداخل. كان اغتيالاً واضحاً بلا توقعات؛ فقد عمل الجندي الإسرائيلي، الذي وقف أمام شيرين في مناسبات مشابهة من قبل، على إطلاق العيار الناري هذه المرة! هذا الجرح النازف والجميع متسمّر أمام شاشات التلفاز، وفي الجنازات، والآن بعد أيام ما زالت العروق متجمدة، وما زال هول الصدمة عميقاً! هذا الاستشهاد وبعد حدوثه كأنه يتحول إلى عنف ملجوم مرة أُخرى للمجموع الفلسطيني، حيث يُراد منه أن يعنّف ويكبّل الذاكرة الجمعية والبنية العاطفية الفلسطينية.

لكن كيف نقاوم هذه الإهانة وهذه الاستباحة وهذا العنف الملجوم والمتفجر لمجموعنا الفلسطيني في الداخل والخارج؟ كيف نضمد الجرح ولا ننساه وإنما نتجاوزه لنبدع ولنخرج ألف شيرين في الدقيقة الواحدة؟ كيف نتجاوز صدمة العيش كاحتمال جثث في كل لحظة نعيش فيها؟ كيف نشكل حياة وحيوات من دون توقعات شبه واضحة عن حياتنا وعن مماتنا؟ كيف نصمد بحب وعنفوان ونكبر عندما يسرقنا العنف الملجوم ويقتلنا العنف المتفجر؟

لقد كان لتمسمرنا جميعاً في لحظة واحدة صادقة جداً، دقّت فيها قلوب جميع الفلسطينيين في الداخل والشتات، ومعهم قلوب العرب والمتضامنين أيضاً، رسالة كبرى كانت هناك أصلاً ولم نرها؛ رسالة مفادها أن نضالنا طوال القرن الماضي لم يذهب هباء! كل الشهداء الذين غادروا، وكل السجناء، وكل الأهالي الذين عانوا، وكل الأراضي التي صودرت، وكل الصيحات التي صدحت في حارات المخيمات، وكل الدموع التي ذرفها أطفالنا، وكل الفنون والكتابات والمقالات والإبداعات التي أنتجناها، وكل التضحيات، تجمّعت وتكثّفت في لحظة واحدة! تكثفت لتنتج هذه التجليات الواضحة عن الهوية الموحدة على الرغم من كل التشرذم والآهات والإحباط والتدمير الذي أحاطتنا به إسرائيل، وعلى الرغم من ترهّل الأحزاب والمؤسسات الوطنية، فعلى الرغم من كل شيء نهضنا جميعاً نزفّك يا شيرين، أيقونة وتعبيراً عن فلسطينيتنا المحققة لا محالة! لقد بلور لنا رحيلك، وجسّد أمام ناظرينا وفي أرواحنا وبصيرتنا، وعكس توقعات الكثيرين، رؤية دامغة عن هويتنا الصامدة، وعن تكثيف آلامنا، التي ولدتك حبيبتنا مرة أُخرى وأحيتك بعد أن قتلوك. فهنيئاً لنا بك وهنيئاً لنا بمن نحن!

الصورة كولاج شريف موسى

 

هذه كانت فقط النقطة الأولى! أمّا النقطة الثانية، فتعود إلى العنف الملجوم مرة أُخرى! ليس المُستعمر فقط من يستخدم عنفاً ملجوماً لدحرنا من المكان، وقمع المقاومة الفلسطينية، وهو عنف يفجّره متى يشاء، بل نملك نحن الفلسطينيون أيضاً أدوات لتعليق ذلك العنف الملجوم، وتعليق التعليق الذي يفتعله لوقف حياتنا ومماتنا أيضاً! إن لدينا مقاومة ملجومة، كما أحب ان أسميها، تعلّق أيضاً عنف الاستعمار الملجوم والمتفجّر! مقاومة صامتة وأحياناً غير مرئية وواضحة بشكل علني نرد بها على عنف المُستعمر كل لحظة وكل يوم. وتبدو هذه المقاومات الملجومة أحياناً غير موجودة، أو غير مهمة فنسمع مخاوف مثل أننا قد ننسى موت شيرين مثلاً، أو أن هذا الاستشهاد قد لا يؤدي إلى نتيجة، لكن المقاومة الملجومة المستمرة التي تتراكم وتهدد بالانفجار في أي وقت، وبلا توقع، هي أهم أدوات العمل الفعلي والمعنوي. إن دموعنا التي انهمرت يوم رحيلك أمام بعضنا لأول مرة على شكل ملحمة فلسطينية مفتوحة هي مقاومة ملجومة كرد إنساني على الاستباحة! حَملُ العلم الفلسطيني في القدس والإصرار عليه هي مقاومة ملجومة؛ تحمُّل كل أنواع الضرب بالهراوي والعصي والاستمرار في حمل نعشك يا شيرين ومنعه من لمس الأرض هي مقاومة ملجومة؛ الإصرار على التجمّع في القدس بأعداد هائلة، والمسيرة المهيبة التي مشت بشيرين من باب الخليل إلى مقبرة جسدها، هي مقاومة ملجومة؛ الإصرار على أن يمر نعشك في كل مدينة فلسطينية من جنين حتى القدس هو مقاومة ملجومة؛ الشاب الذي قفز من فوق السور حيث تمدد جسد شيرين أمامه تحت وابل الرصاص الإسرائيلي لحظة استشهادك هو مقاومة ملجومة؛ إصرار جيفارا البديري على تغطية الجنازة إعلامياً وتمالك نفسها هي وطاقم "الجزيرة" هو مقاومة ملجومة؛ كلمات إلياس كرّام ودموعه ويداه الملطختان بتراب قبر شيرين عند دفنها هي مقاومة ملجومة؛ حمل وليد العمري سترة الصحافة الخاصة التي لبستها شيرين لحظة اغتيالها هو مقاومة ملجومة؛ المِنَح التي رصدتها الجامعات والمؤسسات باسم شيرين أبو عاقلة مقاومة ملجومة؛ الأغاني واليافطات والفيديوهات والكاريكاتورات واللوحات والمقالات والتقارير عن شيرين منذ لحظة استشهادها هي مقاومة ملجومة؛ طلابنا الذين عادوا إلى مقاعد الدراسة ويعودون على الرغم من كل الأهوال، حضورهم ووجودهم هو مقاومة ملجومة؛ والكثير من الأمثلة، والملايين من الشابات والشبان الذين جرحهم هذا الاستشهاد هم عقول وأجساد للمقاومة الملجومة التي في يوم ما، وفي لحظة ما، تتكثّف وتتحقّق أمام العنف الإسرائيلي الملجوم والمتفجّر! قد يكون الحي أبقى من الميت أحياناً، لكن هناك حالات كثيرة يولِدُ فيها الميتُ الحيَّ مرة ومرات عديدة!

 

المقال نشر بتاريخ ٢٤ أيار ٢٠٢٢ على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 

رابط المقال: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1652827

 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.