لماذا فقدت الحركة الطلابية في الجامعات الفلسطينية البوصلة؟

لم يكن اهتمام الحركة الطلابية في الجامعات الفلسطينية قبل إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية مقتصرا فقط على العمل الوطني في مقاومة الاحتلال كما قد يظن البعض الآن من طلبة الجامعات.

لقد كان نطاق هذا الاهتمام عاما أيضا، أي يتعلق بالشأن العام الفلسطيني وآليات تنظيم المجتمع وحل الخلافات فيه في الكثير من الأحيان. ربما لا يعرف الكثيرون من طلبة الجامعات الفلسطينية، على سبيل المثال لا الحصر، عن لجان "إصلاح ذات البين" الطلابية التي لعبت دورا فعالا في حل بعض النزاعات الداخلية في عدد من المواقع في الأرض المحتلة. كان للحركة الطلابية أفق أوسع ومهمات مجتمعية تخرج عن نطاق الحرم الجامعي وقضاياه. ماذا حصل؟ لقد تقزم وتحجم وانحسر هذا الدور بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، بافتراض خاطئ أن الشأن العام حكر لها، ولا يوجد دور مجتمعي لغيرها. وكنتيجة، أضحى دور الحركة الطلابية يتمحور حول مقارعة إدارات الجامعات، كما هو الحال الآن، في الأساس حول أمور مالية أو صلاحيات داخل الحرم الجامعي.

والأزمة في جامعة بيرزيت الآن مثال على هذا. ما هي مطالب الحركة الطلابية في الجامعة؟ لو نظرنا إلى البيان الرسمي الصادر عن "لجنة إدارة الأزمة في جامعة بيرزيت" الصادر بتاريخ 16-12-2019، نجد تسعة مطالب محددة، ثمانية منها تتعلق بأمور مالية بشكل مباشر أو غير مباشر. هنا ينشأ السؤال: من يتحمل القسم الأكبر من المسؤولية المالية للتعليم العالي عموما؟ ما هو حاصل أمر غريب حقا: إن الطلبة أو ذويهم، وإدارات الجامعات تتحمل معظم هذه المسؤولية. بعبارة أخرى، إن المفارقة الكبيرة هنا تكمن في أن الطلبة وإدارات الجامعات يقدمون دعما ماليا سخيا، حتى لو أتى بمشقة ومعاناة كبيرة، للمستفيد الأول من خريجي الجامعات. من هو المستفيد الأول؟ إنه المشغل، أي، أولا، القطاع الخاص ويليه القطاع العام. ويقدم هذا الدعم على شكل رأس مال، وهو التكلفة الإجمالية للطالب إضافة إلى علمه، يحمله معه ويقدم مجانا لهذين المشغلين. نعم مجانا. هذا نظام اشتراكي معكوس: من الطالب إلى القطاع الخاص والدولة!

هذا هو السؤال الغائب عن جدول أعمال الحركة الطلابية، سؤال الشأن العام: من ينبغي أن يتحمل تكلفة التعليم العالي في غمرة الحديث المتكرر عن اقتصاد المعرفة و"التنمية المستدامة" وحاجة السوق" من خريجي الجامعات؟ وما هو دور الدولة، أسوة بدول أخرى في الشرق والغرب، حيث التعليم العالي مجاني، أو برسوم لا تغطي التكلفة الفعلية، كما هو الحال في معظم الدول العربية أيضا؟

فبينما تهتم الحركات الطلابية في مختلف الدول في العالم بأسئلة الشأن العام هذه، وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق بها مباشرة، لا تسأل الحركة الطلابية في فلسطين هذه الأسئلة وتكتفي بمقارعة إدارة الجامعات.

توجد عدة أسباب لهذا التحول أشير إلى أهمها وابتداء بحركة الشبيبة الطلابية، وخاصة قياداتها، التي اندمجت إلى حد كبير في النظام الزبائني الموجود في النظام السياسي الفلسطيني وعلى وجه الخصوص في حركة فتح أو بعض من محاورها. لقد أضحت قيادات حركة الشبيبة ومعها الحركة ككل تابعة لهذا المحور أو ذاك في حركة فتح وتعمل بموجب جداول أعمال خاصة، تتعارض أحيانا مع الصالح العام، وفقدت دورها في قضايا الشأن العام، ومعها استقلاليتها النسبية كحركة طلابية حتى لو كانت جزءا من حركة فتح. وفقدت أيضا إمكانية التأثير من الداخل على الحركة. فالأجنحة الطلابية للحركات السياسية في دول أخرى كثيرة يحسب لها حسابا كبيرا من قبل تلك الحركات أو الأحزاب، ويمكنها أن تكون مؤثرة داخل الحزب أو الحركة بشرط احتفاظها على استقلال نسبي في قضايا محددة على الأقل، وليس انتهاج التبعية والإستزلام الحاصلان الآن. لقد رجحت قيادات حركة الشبيبة الصالح الخاص على الصالح العام وفقدت الدور الهام الذي كان من الممكن أن تلعبه في قضايا شتى وليس فقط في موضوع تمويل الجامعات. هذه خسارة كبيرة ليس للحركة فحسب وإنما لفلسطين أيضا.

وبالنسبة للحركات الطلابية اليسارية، صحيح أن قاعدتها الطلابية أقل عددا من حركات أخرى وبالتالي مهامها أصعب، لكن يمكنها التميز بأن تكون سباقة في تحديد بنود جدول أعمال للحركة الطلابية عامة يعنى بالشأن العام، قضايا يمكن ربطها أيضا بمصالح الطلبة أو مستقبلهم بعد التخرج. قد تكون هذه مهمة غير يسيرة، لكن من غير الواضح أن هذا المسعى جرب ولم يوفق. ويجدر التذكير أن قضايا العدالة الاجتماعية كانت على رأس مطالب الشباب العربي المنتفض، وهي قضايا لا يوجد يسار، أو أن يسمى يسارا دون تبنيها.

أما بالنسبة للحركات الطلابية الإسلامية فإنها منشغلة بالحفاظ على الذات إزاء تعقب الاحتلال المستمر لها. هذا أمر يمكن تفهمه لكنه لا يبرر تصرفها وكأنها طرفا في الإنقسام الداخلي بين الضفة وغزة. لقد وافقت حماس على دخول النظام السياسي الفلسطيني من خلال الانتخابات. وبمعزل عن أسباب الإنقسام، كان من الممكن أن تولي هذه الحركات الطلابية اهتماما ببعض القضايا العامة، على الأقل تلك التي تخص طلبة الجامعات مباشرة، مثل مسؤولية الحكومة عن دعم التعليم الجامعي وتخليها عنها. وربما كان من الممكن التنسيق مع حركة الشبيبة وتيارات أخرى حول هذه الأمور لما فيها من مصلحة مشتركة. وربما كانت هذه خطوة لرأب الصدع من القاعدة إن جاز التعبير. الموضوع مرة أخرى هو الإستقلال النسبي للحركات الطلابية عن أحزابها في قضايا محددة، وأن لا تكون فقط أدوات تحركها الأحزاب.

ولنا في الإنتفاضات الشبابية والطلابية العربية عبرة. ففي لبنان، انتصرت مطالب المنتفضين لوطنيتهم على حساب انتماءاتهم الطائفية. وهذا معنى شعار "كلن يعني كلن". وفي العراق، نهض الشبان والشابات ضد نظام سياسي أغلب قياداته من نفس مذهب المنتفضين.

هذه ليست دعوة لانتفاضة ضد الأحزاب السياسية، وإنما دعوة لعدم الإستتباع الأداتي للحركة الطلابية لأغراض مصالح خاصة، ولاستقلالها النسبي عن أحزابها. لعلها بعد ذلك  يمكنها أن تجد بوصلاتها المفقودة والخاصة بها.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.