اللجوء إلى حرم الجامعة

في بيرزيت، أشعر فوراً وكأني في بيتي، وبطريقة لم أعهدها من قبل، وكأن حياتي اتسعت لتضم ألفي شخص جديد هم عدد طلبة بيرزيت في ذلك الوقت. وأشعر أني فلسطينية أكثر من أي وقت مضى! فأنا لست فقط مع أقربائي وزملائي في الدراسة من رام الله والقدس. فزملائي الجدد، محمد، وإبراهيم، وغادة، وناصر، وسهير، ورأفت، وكثيرون غيرهم، هم من شتى أنحاء فلسطين. ألتقي أناساً يتحدثون مختلف اللهجات، وقادمون من القرى، ومخيمات اللاجئين والمدن الفلسطينية التي ما كنت أعرفها سابقاً سوى بالإسم.

ولم يكن تنوع الجسم الطلابي هو التجلي الوحيد لتجمع أبناء هذا الشعب في بيتهم، بل كذلك كان الأمر مع الهيئة التدريسية. فكارميلا مدرسة الرياضيات كانت من داخل الخط الأخضر، ومروان، مدرس آخر للرياضيات، كان قد عاد لتوه من الولايات المتحدة لتدريسنا. أما زكي، مدرس الكيمياء، فقد تلقى تحصيله العلمي في روسيا. كان حرم جامعة بيرزيت يبدو كمخيم لنا نحن الفلسطينيين، اللاجئين بشكل أو بآخر، حيث كنا نلتجئ إليه يحدونا أمل كبير في التعليم.

ولكن بعد أقل من شهر على البداية، أغلق الجيش الإسرائيلي حرم الجامعة وأعلن الجامعة منطقة محظورة. ومر شهران دون صفوف. قرأت كتب العلوم ولم أتعلم أكثر بكثير مما كنت أعرفه من دراستي الثانوية. كانت الكيمياء والفيزياء وكل المعادلات معقدة بقدر مشاعري المعقدة في محاولة للتنبؤ بشأن مستقبلي الدراسي. كيف سننهي الفصل؟ تسلل بعض المدرسين والطلاب إلى الجامعة مدعين أنهم بحاجة إلى جلب بعض الأشياء من المكاتب، وقاموا بتدريس بعض المواد في الأروقة للطالب الذين تبعوهم. والتقى البعض في الشوارع والبيوت والمقاهي، لكن استيعاب كل ذلك كان أمراً صعباً. وأصرت أمي على أنني فتاة شابة وليس من اللائق أن أتوجه إلى بيوت الناس لحضور الصفوف.

وعدنا بعد شهرين، وكانت الامتحانات ستجري فوراً. ولكن الجامعة أغلقت مرة أخرى بعد ذلك بوقت قصير. واستغرق الفصل الأول في بيرزيت من تشرين الأول إلى حزيران، مما جعل بعض زملائي ينسحبون وينتقلون إلى جامعات أخرى. وبدأ الفصل الثاني في حزيران دونما عطلة تقريباً، وانتقلت إلى دراسة الأدب، حيث قلت لنفسي إنه سيكون بإمكاني على الأقل قراءة المادة وحدي، وبإمكاني أن أكتب وحدي، وتكون حاجتي إلى الأساتذة أقل خلال الإغلاقات التي كانت تبدو كثيرة.

ومع انتقالي إلى دراسة الأدب، انتقلت دراستي من الحرم الجديد إلى الحرم القديم، وهو أمر أسعدني. فحتى في الأيام التي لم يكن لدي فيها حصص، كنت آتي إلى بيرزيت. فالجلوس مع الزملاء في ساحة بيت عائلة ناصر القديم، والذي يقع في قلب الحرم القديم، ومناقشة الشعر والقصص والكلمات كان يشكل لي السعادة المطلقة. وكنا نتبادل أطراف الحديث عن الأحداث القاسية مثل مجازر صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين في لبنان وتبعاتها فيما كنا نحاول متابعة الدراسة خلال الفصلين الثاني والثالث. وكنا نناقش الأخبار، ونستشيط غضباً، ثم نهدّئ بعضنا البعض. وكنا نكتب الشعارات والأناشيد. وعملت في تسجيل القراءات للطلاب المكفوفين. وكثيراً ما كنا نقوم بإضرابات أو مظاهرات طلابية ضد الاحتلال. 

وأغلقت الجامعة مرة أخرى وانقطعت الدراسة، ومع ذلك فقد تمكن الكثيرون منا من التخرج في غفلة من الزمن، لأن مدرسينا في بيرزيت كانوا يتصرفون وكأن مستقبلنا هو مستقبلهم، فلم يكونوا يبخلون علينا بأي جهد في سبيل أن نتعلم. وكانت الرغبة في التعلم والنجاح مشتعلة في نفوسنا جميعاً فأضاءت لحظاتنا الحالكة.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.