الفلسطينيون: الصعود من أسفل

هناك حالة انحسار لمساحة إضافية من البساط من تحت أقدام المستويات الرسمية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بما في ذلك الفصائل والمستويات الرسمية الفلسطينية؛ ومن تحت أقدام الترتيبات الأمنية القائمة على تسويات عقيمة، لا تقدم شيئاً للفلسطينيين ومطالبهم الوطنية والحياتية. وهناك واقع جديد يتبلور، وحالة وطنية تتكثف، من أسفل إلى أعلى؛ بانتظار نمط القيادة والتوجيه الملائمين. وتتغذى هذه الحالة من الانسداد في العملية السلمية، وفي عملية إطلاق الأسرى القدامى والإداريين، وانشغال الفصائل بخلافاتها، على غرار تفجيرات غزة (الجماعية) الأخيرة التي يكاد ينساها الفلسطينيون بعد أقل من يومين من حدوثها، على وقع عمليات المقاومة (الفردية) الراهنة.ما يقوم به الفلسطينيون بشكل فردي ومحلي (بمعنى على مستوى قرى ومدن، وبشكل غير مركزي)، هو رد فعل على استمرار الاستيطان، وهدم البيوت، ورد على الإرهاب الناعم الذي يمارسه الإسرائيليون من وزراء وأعضاء كنيست وإعلام؛ بالحديث عن شغب يمارسه الفلسطينيون ضد تقييد حريتهم الدينية ومقدساتهم وضد حقوقهم في السكن، وحتى حقهم في الحب (بتقييد لم شمل الأزواج، ما أوجد حركة اسمها حب في زمن الأبارتهايد). ومن هنا، فالطعن وربما حالات دعس ومظاهرات غاضبة، ليست سوى ردود فعل، هي أقرب لغيوم تتكاثف، وتصعد من أسفل إلى أعلى، ولم تمطر حتى الآن سوى الرذاذ.هذه المرة، تبدو شمولية الانتفاض (وليس بالضرورة الانتفاضة بشكلها التقليدي) مؤكدة بين جناحي الوطن الفلسطيني. وهنا فإن جناحي الوطن لا يمكن أن يكونا ما حاولت عملية أوسلو تثبيته، بأنّهما ما يسمى قطاع غزة والضفة الغربية، بل هما أراضي الاحتلال الأول 1948، والاحتلال الثاني 1967. وأي حراك جديد، خصوصاً إذا رافقه قمع إسرائيلي على شكل سحب جنسيات وإبعاد من مناطق إلى أخرى، سيعني توحداً أكبر وأكثر وضوحاً ضد اتفاقيات أوسلو وتجلياتها.في الأثناء، من المتوقع جداً أن ما يفكر فيه مسؤولو الأمن الصهاينة الآن هو أي إجراءات سيفرضونها (في الضفة الغربية) إذا ما استمر الوضع الراهن؛ بدءاً من تعليمات إطلاق النار على الفلسطينيين، وصولا إلى تقييد الدخول إلى الأراضي المحتلة العام 1948، مروراً بتفعيل الحواجز في مدن الضفة الغربية، وتحديد أهداف لاعتقالها ومواجهتها، وسحب جنسيات وعقوبات في أراضي 48. لكن الواقع أنّ الأمر أكثر من هذا بكثير؛ فالمعادلة هذه المرة لا تحتوي فقط المستوى العسكري الأمني الإسرائيلي، بل هناك المستوطنون أيضاً. وكنموذج على دور المستوطنين، أفرغت سلطات الاحتلال، أول من أمس، شارع حوارة، الذي هو الطريق الرئيسة لدخول نابلس وشمال الضفة والخروج منها. والهدف تأمين مسيرة احتجاجية لمستوطنين، ما يعكس طبيعة القوى التي يمكن أن تنخرط في حراك جديد. وما يلاحظ أيضاً هو أنّ القيادة السياسة الإسرائيلية الآن ليست قيادة وطنية؛ بمعنى أنّها لا تضع نصب عينيها كسب تأييد كل الإسرائيليين، بل كل زعيم له قاعدة انتخابية تعنيه، فنفتالي بينيت، مهتم بالمستوطنين، وأفيغدور ليبرمان مهتم بالمستوطنين الروس، ويائير ليبيد مهتم بطبقة وسطى مدنية. وهكذا، فالقرارات السياسية الإسرائيلية ستغلب عليها الحسابات الضيقة والتعصب أكثر من تفكير وطني عقلاني.لكن أيضاً الحراك الفلسطيني في أراضي الاحتلال الأول غير مسبوق. لقد أحال الطلبة والشبيبة والأهالي المدارس والجامعات وساحات مدنهم في الأيام الماضية، إلى منصات احتجاج وتجمع ودفاع عن الذات. وهناك جيل جديد يجد رفع العلم الفلسطيني ولبس الكوفية موضوعا يوميا خارج نطاق النقاش. وإذا أُريد المقارنة بين انتفاضة العام 1987 وما يحصل الآن، فإنّ المقارنة جائزة في الداخل الفلسطيني (أراضي 1948)، حيث تتكاثف الاحتجاجات من سخنين إلى كفر كنّا بمبادرات محلية، وتبلغ أعداد المعتقلين العشرات في كل موقع، ما يعني ببساطة أنّ كل المجتمع المحلي بات جزءا من المشهد ومتأثراً به.هناك عنجهية إسرائيلية غير مسبوقة، تواجهها حالة شعبية فلسطينية صاعدة من أسفل إلى أعلى، تغلب عليها المبادرات الفردية في الأراضي المحتلة العام 1967. بينما في الداخل الفلسطيني هناك حراك مجتمعي محلي. وهناك على الجانب الصهيوني مستوطنون مدعومون بوزراء وسياسيين، وسيكون هؤلاء جميعا جزءا من المشهد، بجانب المستويات السياسية والأمنية الرسمية.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.