كل عام وفيروز بخير..

في مثل هذا اليوم قبل 83 عاما، في حارة زقاق البلاط في مدينة بيروت، حيث تقيم عائلة فقيرة الحال، احتفل عامل المطبعة وديع حداد وزوجته ليزا البستاني بولادة ابنتهما نهاد التي ستصبح فيروز.

بعد ذلك اليوم بعشرين عاما وتحديدا يوم الجمعة 6 كانون الثاني 1956 الساعة السادسة مساءا في بيروت، فتح منصور (31 عاما) الباب ورحب بميشال (44 عاما) القادم من زحلة ترحيبا حارا وصادقا، ارتبك الضيف المتواضع وارتفع لديه منسوب الشعور بالغبن التاريخي اللاحق به ابا عن جد، غاص في المقعد الوثير، وشغله دفء المنزل عن ايجاد الكلمات التي يريد قولها للمباركة.

السيدة فيروز مطربة لبنانية ذائعة الصيت، ساهمت بالتعاون مع الأخوين الرحباني في إحداث ثورة كبيرة في الموسيقى العربية. وما زالت أغنياتها تحتل المراتب الأولى في مختلف بلدان الوطن العربي. مصدر الصورة: الانترنت.

دخل عاصي (33 عاما) ومعه زوجته الشابة نهاد (20 عاما) وفي حضنها المولود الجديد، زياد، وضع ميشال كاس النبيذ واقترب من الطفل الذي رفع يده الحريرية الى خد ميشال، استخرج ميشال اوراقه وقلمه وعدل سطرا او سطرين وقدم الاوراق لعاصي قائلا هذه هديتي للمولود الجديد، سأعود الآن لحراسة القلعة.

وبينما كانت السيارة عائدة الى زحلة انشغل منصور وعاصي بالكلمات الساحرة التي خطها ميشال:

بكوخنا يا ابني بهالكوخ الفقير والتلج ما خلّى ولا عودة حطب
وقفوا ع شباكك يدقّوا العصافير بجوانحن يا جوانحن المتشرنين
و رفيقك البلبل شو مشتقلك كتير مخبّيلك بعبّو شي ميّة سوسنة
وشو الدني يا ابني وشو طعم الدني ان ما هبّجت وجّي بإيديك الحرير

وعرفا فورا انها ستكون اغنية خالدة، واما ميشال فقد انفق الوقت في استذكار عذابات طفولته وفقره منذ اختفاء والده في سنة المجاعة، وزاد حزنه وهو ينظر الى قلعة بعلبك التي سينفق 35 عاما موظفا صغيرا يعمل في حراسة اعمدتها الرخامية، وسينفق عمره كله وهو حزين لفقدانه جلنار تلك الصبية التي تكبره بتسع سنوات والتي لم يحب احدا غيرها طيلة حياته، دخل مسرعا فاستخرج ديوانه الاول جلنار فكر في تمزيق المقدمة التي كتبها سعيد عقل لكنه تراجع لعلمه بصداقة الرجل مع الاخوين رحباني وطوى الورقة التي تحمل قصيدة بعنوان جلنار وارسل الديوان لعاصي ومنصور.

حل ربيع نيسان واكتمل القمر في سماء زحلة وجلس ميشال واضعا مرفقيه على الطاولة كان يستمع لفيروز تغني:

وقّفت قلبي عالدرب ناطور .. تَ فاق ألف نهار وعْيِت الشمس وزقزق العصفور .. وما إجت جلنار

وضع رأسه بين كفيه وحدق طويلا في كاس العرق، سالت دموعه في الكأس الحليبي، تنهد وقال إن لم تسمعها جلنار من فيروز فممن ستسمعها اذا؟!

ساد الخنافس بشعورهم ومجونهم في بيروت ولم يدحرهم الا طربوش وصوت نصري شمس الدين وكلمات ميشال طراد التي ظلت وفية للقرية الوادعة والصافية، ثم هبت على المدينة حرب اهلية وتلتها موجة عارمة من اغاني الفيديو فالتهب دماغ عاصي ورحل عن دنيانا مخلفا اشعارا وموسيقى ومسرحيات لا تموت وعبقرية زياد ومنازعات ميراث قضت على شقيقه منصور واتلفت دماغ ابنه الذي شكك بابوة عاصي الصغير ابنه من طليقته دلال كرم. وظل ميشال طراد منتظرا جلنار الى ان رحل عام 1998.

تدخل فيروز عقدها الثامن متوجة بحب جماهيري لا يدانيه حب على مر العصور، تدخله وقد منحت كل واحد منا ذاكرة طفولته البعيدة وشبابه وحبه ووطنه ، وها هي تسأل لمن كان هذا كله ؟

لمين،، بتسهر النجمة؟ لمين،، ليش،، بتخلص العتمة؟؟ إلك، أو إلي، أو مش ل شي، ولا أي شي!
لمين بيبكي الحور؟ ليه الأرض بتدور؟ إلك؟ أو إلي؟ أو مش لشي!….ولا أي شي!

كان لي ولكم ولزياد ولريما وعاصي ومنصور وميشال. إلا إن اردنا ان نكون ولا شي ولا اي شي …..

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.