جائحة التفكير اللاعقلاني حول وباء الكورونا

ما يراه المرء من تعليقات وملاحظات على شبكات التواصل الاجتماعية  وعلى مواقع "الإنترنت" المختلفة، تتراوح في أعداد كبيرة منها بين من يستهزىء، ومن هو حانق، ومن كذّب ما يقرأ حول ازدياد أعداد الإصابات بالوباء وانتشاره أو حتى وجوده. هذا إضافة إلى مجموعة أخرى واسعة الانتشار أيضا تقر بأن هناك وباء، لكنها تعتقد أن انتشاره هو مؤامرة كونية، إذ لا بد من أن يكون "طرف ما" وراء هذا الحدث. ربما هي الولايات المتحدة أو الصين أو حتى الحركة الصهيونية العالمية.

وبعد دخول الضفة الغربية المرحلة الثانية من الوباء، وخاصة الانتشار السريع للإصابات في الخليل أولا، وبعد ذلك في مناطق أخرى، برز مطلبا "مُلِحا" جديدا يتعلق بالأفراح، وتصاعدت الاحتجاجات على منع التجمعات المرافقة في العادة لهذه المناسبات، بالرغم من أن انتشار الوباء في الخليل كان أحد أسبابه هذا النوع من التجمعات ودون وقاية أو تباعد مكاني. وقد دفع هذا البعض إلى القول، وفي شماتة سوداوية، أنه لن تتولد قناعة بالإجراءات التي تتطلب صرامة حفاظا على صحة وحياة المواطنين إلا إذا رأى الناس أكواما من الموتى أولا، لا سمح الله.

كيف يمكن تفسير هاتين الظاهرتين؟ لعل ما هو أسهل فهمه وربما التعاطف معه إلى حد ما، هو مطلب السماح بالتجمعات لغرض الأفراح ونحن في بدابة موسم الزواج وموسم التخرج من المدارس والجامعات. لا شك هذه مراحل فاصلة ومهمة في دورة الحياة، ينتظرها المرء والأهل بفارغ الصبر، وها هو الوباء قد حرمهم منها. فالاحتفال بالزواج في البيت مع مجموعة صغيرة جدا ليس احتفالا في نظر العديدين، وأقل ما يقال فيها من منظورهم إنه تبخيس لهذه المناسبة.

ومن الملفت للنظر اختلاف الأولويات بين فلسطين وبين عدد من الدول الغربية. ففي الولايات المتحدة مثلا، يتحدى الناس نصائح الهيئات الطبية أو حتى تعليمات سلطات الولايات للخروج من بيوتهم لتناول الطعام في المطاعم والسباحة في البحر وأنشطة ترويحية أخرى. أما الزواج فهم يلتزمون إلى حد كبير بعدم التجمع وإقامة الحفلات كما هو معهود في هذه المناسبات. فالجانب الاجتماعي أقل أهمية من الجانب الفردي الشخصي.

بالمقابل، في فلسطين توجد أربعة أولويات للتجمع جميعها تعطي أهمية للجانب الجماعي والاجتماعي غير الفردي: الاحتفال بخروج الأسرى، والزواج، وبيوت العزاء، والصلاة جماعة في المساجد. الفردية ليست ذات أهمية قصوى ومعنى الحياة في مراحلها المختلفة هي أساسا مع الجماعة.

قيم مهمة لا شك ولها جوانب إيجابية في نواح مختلفة من الحياة. لكن القضية هنا هي الصالح العام وليس الصالح الخاص في هذا الوضع الاستثنائي. نعم، هذه مسؤولية الحكومة ويجب أن تتحملها وهي تتحملها فعلا، حتى لو ترددت أحيانا مراعاة  للضغط الاجتماعي والقيم السائدة. لكن من الواضح أن الصالح الخاص لا يجب أن يطغى على الصالح العام. هذا أمر يجب أن يتفهمه الجميع حتى لو تطلب الأمر درجة أعلى من الحزم أحيانا.

لكن ما لا يمكن تفهمه، من ما زال يعتقد أنه لا يوجد وباء حقا، ربما رشح أقوى من العادة، أو شيء يشبه الإنفلونزا، لا غير. لا أدري ماذا يقرأ هؤلاء وما هي مصادر معلوماتهم والعالم كله ليلا نهارا مشغول بهذا الوباء والأطباء والخبراء على شاشات التلفزيون صباحا مساء بلا كلل في أرجاء المعمورة كافة. ربما لا يقرؤون سوى المهاترات على الفيسبوك، تعزز بعضها البعض.

هذا وباء أيضا أصاب الكثيرين وما زال البعض لم يشف منه. ما هو الدليل على ما يعتقدون؟ لا دليل سوى أنهم يعتقدون. هذه هي اللاعقلانية في "أبهى" صورها: أن ما يعتقدون هو الدليل على ما يعتقدون!

أما نظرية المؤامرة المنتشرة في بعض الأوساط ، أن لا بد أن يكون "أحد ما" وراء الوباء، وفي هذه الحالة لا بد أنها مؤامرة كونية بسبب نطاق انتشار الوباء، فتعاني من نفس الجائحة السابقة من حيث غياب الدليل سوى ما يعتقده البعض. وإذا أردنا التماس بعض العذر لهم يمكن الإشارة إلى أن التاريخ العربي الحديث كان في صراع مع الاستعمار الغربي أساسا والذي رسم خرائط العديد من الدول العربية والإفريقية أيضا وليس فقط سايكس-بيكو. لم يكن لنا دور في تشكيل خارطة المنطقة وأنشأت دول لا مقومات سكانية أو مقومات أخرى لوجودها، وتبددت الوحدة المرجوة واستمرت التبعية حتى بعد "الاستقلال". وفلسطين حالة واضحة من وعد بلفور وما بعد. قوى خارجية تقرر مصاير شعوب بأكملها.

هذا جانب يمكن أن يسعف في تفسير انتشار نظرية المؤامرة لكنه غير كاف لوحده، ذلك أنه ينبغي أن نسأل:  كيف تختلف المؤامرة عن خطط سرية تضعها دول عدة لأغراضها المختلفة؟ فلا بد مثلا أن لدى إيران خططاً سرية للدفاع عن نفسها إن هاجمتها الولايات المتحدة، ولا بد أن لدى إسرائيل بنكاً سري من الأهداف في حال نشأت جولة أخرى من العدوان في لبنان. ما هي تلك الصفة الخاصة التي تجعلها "مؤامرة" وليس خطة سرية مثلا؟

من ناحية مدلول كلمتي "مؤامرة" و"خطة سرية"، من غير الواضح أنه يوجد فرق بينهما فيما تدلان عليه. لكن الفرق قد يكمن في الجانب المشخصن لكلمة "مؤامرة"، الجانب "الكيدي" الموجه "ضدنا". إنه كيد الأعداء، ومكر ودسائس من يقبعون في الخفاء وراء الأحداث الذين يريدون إضعاف شعوب الأرض أو تحقيق الربح أو تبديد مصادر قوة الشعوب منعا لأي تغيير ممكن في توزيع عادل للثروة في النظام الاقتصادي الحالي المعولم، أو أي تفسير آخر دون دليل يعتد به. والواقع أنّه لا حاجة لدليل عقلاني لأن هذه الحالة النفسية أساسا، والذهنية أيضا، هذه الجائحة من اللاعقلانية دائرة مغلقة على ذاتها، تحتاج لتعزيز مستمر من داخل نظرتها للأحداث وليس من خارجها، حتى تحافظ على رؤيتها لمعظم الأحداث التي تخرج عن نطاق سيطرتها، وللعالم ككل، كما في حالة الوباء المعولم. ولو أخذت بالعقلانية القائمة على الدليل ذي المصداقية فيما يتعلق بالأسباب والمسببات، لفقدت أسباب وجودها.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.