جامعة بيرزيت... آخر القلاع الشامخة في فلسطين

لم يكن يخطر في بالي العودة إلى فلسطين، طيلة السنوات العشر الذي قضيتها في ألمانيا، فقد كنت أعمل آنذاك في القسم العربي في تلفزيون دويشي فيللي الألماني وفي إذاعة فونك هاوس أوروبا الألمانية ولم يخطر في بالي البتة العودة إلى الوطن، اعتقدت جازماً ان القدر هو الذي اختار مكان ولادتي وعلي الآن ان اختار مكان حياتي ومماتي. بعد هذه المدة الطويلة طرح عليّ صديق العمر د. وليد الشرفا وهو أستاذ النظريات الإعلامية في الجامعة العودة إلى فلسطين والتقدم بطلب للتدريس في جامعة بيرزيت، ولا اخفي سراً إذا قلت انني ترددت طويلاً طويلاً . فقد قلت في نفسي، كيف سأنتقل إلى فلسطين بعد ان تجذرت جذوري هنا في ألمانيا، البداية كانت صعبة جداً، وانا اعرف تماماً ان البلاد هناك تعاني من مشاكل وصعوبات ليس من الاحتلال الإسرائيلي فقط وإنما من غياب النظام وبناء المؤسسة والقانون والدستور والأمن الداخلي وعدم التطور على كافة الصعد. هذا التردد استمر لمدة عام كامل على أقل تقدير، ولكن اسم جامعة بيرزيت كان يعطيني حالة جذب وطاقة وقوة قل نظيرها، ولو طرح علي عمل آخر فسوف ارفضه تماماً، دون نقاش، سوف يكون القرار آنذاك سهلاً. لكن لجامعة بيرزيت، سحر آخر، أنها صرح وطني ليبيرالي شامخ، على الرغم من أنني خريج جامعة النجاح الوطنية في نابلس، فقد كنت اسمع عن جامعة بيرزيت الكثير، واعرف أنها رائدة الجامعات في فلسطين، وبيرزيت تعتبر من الجامعات المشهورة والمعروفة في الوسط الاكاديمي في ألمانيا وقد سمعت ذلك بنفسي من زملائي الطلبة الألمان، وقد كان لي صديق مغربي من مدينة الناظور، يقول لي بالحرف الواحد ان الألمان ينحازون لكم دائماً فقد كانت الجامعات الألمانية تعترف بشهادة الماجستير من جامعة بيرزيت فوراً، بينما لا تعترف بشهادة الماجستير من الجامعات المغربية أو المصرية مثلا ً كنت اسمع ان جامعة بيرزيت صرح اكاديمي مميز ومصنع للبحث العلمي وواحة ديمقراطية و ليبيرالية فريدة من نوعها تتسع لجميع الافكار والمعتقدات والرؤى، جامعة غير متزمتة، يستطيع الإنسان من خلالها ان يطور افكاره، لكي يغدو مبدعاً ومبتكراً وناجحاً. ولكن للأسف، تركت مشكلة اغلاق الجامعة بالقوة والعنف بالسلاسل الحديدية من قبل بعض الطلبة لمدة تزيد عن 25 يوماً انطباعاً سيئاً ومّراً وغصة في قلبي، ولهذا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية: أولاً: لقد عشت اصعب ايام الحياة الجامعية في جامعة النجاح الوطنية في زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى منذ عام 1989 ولغاية العام 1995، يوم كانت الحركة الطلابية الفلسطينية في جامعة النجاح في اوج ازدهارها وعنفوانها، يوم كانت الحركة الطلابية آنذاك في مقدمة الجبهة لمقاومة المحتل، ولكن لم يخطر على بال طالب آنذاك، إغلاق الجامعة بالسلاسل الحديدية، كان الجميع يعرف ان الإحتلال هو الذي يغلق فقط الجامعة، وما عدا ذلك لا يستطيع أحد ان يقوم بإغلاقها، كان هذا عرفاً بين جميع الكتل الطلابية، فالجامعة ملك للشعب الفلسطيني وتعتبر أحدى منجراته التاريخية. كما أنني عاصرت إضرابات للطلبة الإلمان في جامعة برلين الحرة وهي الجامعة التي درست فيها نصف البكالويورس والماجستير والدكتوراة منذ عام 2002 ولغاية عام 2009، كان الطلبة الألمان يعلقون الدوام واذكر ان الحركة الطلابية في الجامعة قامت بمنعنا من الالتحاق بالمحاضرات واغلقت الكلية، ولكن لم تغلق البوابة الرئيسية بالجنازير، هذا لم يحصل ابداً، حتى في الجامعات الافريقية لا تقوم الكتل الطلابية هناك ب جنزرة الجامعة، أنه محرم في العقل العلمي البشري. ثانياً: أنني اعتب على القيادة الفلسطينية وعلى الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية بجميع اطيافها وألوانها وفي مقدمتها حركة فتح، التي لا تحرك ساكناً، وكأن شيئاً لا يحدث في جامعة بيرزيت. ألا يوجد متسع من الوقت لدى من هم في مواقع المسؤولية للجلوس مع اطراف الخلاف للتوصل إلى حل؟ أين زعماء ومسؤولو الحركات السياسية الفلسطينية واعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني؟ هل هانت علينا ضمائرنا ونحن نرى جامعة عريقة وعظيمة وشامخة بحجم جامعة بيرزيت وهي تذوي منذ 25 يوماً؟ هل يعقل ان الحلول قد انعدمت؟ هل فرغت الصناديق الفلسطينية من الاموال لكي تقدم إلى الجامعة جزءا من المال لتدبير نفسها على الأقل هذا الفصل لوقف هذه الكارثة وهذا النزيف الدموي المستمر منذ 25 يوماً؟ أين القطاع الخاص في فلسطين وخاصة المصارف والمؤسسات التجارية؟ ثالثاً: انا اعرف ان الوضع الاقتصادي في فلسطين صعب واهالي الطلبة يعيشون اوضاعا اقتصادية سيئة، على الرغم تحفظي على ذلك، لعدة أسباب منها: إذا كان الوضع الاقتصادي في فلسطين سيىء جداً، والشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال، ويعتاش من اموال المانحين، فلماذا سعر الشقة السكنية في مدينة رام الله أغلى من سعر الشقة في برلين ؟ لماذا الجلوس في مقهى في مدينة رام الله لاحتساء فنجان من القوة أغلى من احتساء فنجان من القهوة في مدن مثل برلين أو امستردام أو اثينا أو حتى مالطا أو كوبنهاجن باستثناء باريس ولندن ؟ لماذا تكاليف حضانة الطفل في رام الله اعلى من سعر حضانة الطفل في نيويورك؟ النقطة الثانية، وهي مهمة جداً، وارجو من ممثلي الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت ان يتسع قلبهم لكلامي. زعماء الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت يرفعون ليل نهار الشعار التالي : التعليم حق للجميع ، هذا صحيح، من حق الفقراء والاغنياء ان يتعلموا، ولكن أجزم ان الفقر لا يقف حائلاً دون ان يتعلم الفقير، ربما يقف حائلاً دون ان تتعلم في جامعة مثل هارفارد الأمريكية أو السوربون الفرنسية أو اكسفورد البريطانية، ولكن من يريد ان يتعلم، يستطيع، عليه ان يكافح في الليل والنهار ويكد ويتعب ويسهر ويتعلم، وانا بنفسي تركت جامعة النجاح الوطنية في السنة الجامعية الثالثة عام 1994 وتعلمت مهنة لمدة فصل دراسي واحد، ثم عدت إلى الجامعة وتابعت دراستي، من يتعب يصل ومن جد وجد، الأمر يحتاج فقط إلى تعب ومثابرة ونشاط وكد. لكن عندي سؤال، وقد رأيت ذلك بنفسي وعشته على مدار السنوات الثلاث الماضية، 80 % من غيابات طلبة جامعة بيرزيت هم من ممثلي الكتل الطلابية، اذا كنت حريصاً على العلم وترفع شعار التعليم للجميع ، لماذا تتغيب عن معظم حصص المحاضرة؟ النقطة الأخرى في هذا المضمار، هل يعقل ان يقوم طالب بشتم مدرسين من الجامعة على صفحات الفيسبوك وقد رأيت ذلك بنفسي أيضاً ؟ هل يمكن لطالب محترم يريد ان يتعلم يشتم وينعت ادارة الجامعة بصفات لا ينعتها إلا أمي جاهل ؟ هؤلاء الطلبة الذين يشتمون على صفحات التواصل الاجتماعي لا يعرفون انه في الجامعات الأوروبية يحتاج الطالب إلى أسبوعين على أقل تقدير لكي يحدد موعداً مع الأستاذ الجامعي. رابعاً وأخيراً: يجب ان نتعلم درسا قاسيا مما حصل ويحصل في جامعة بيرزيت، وهو ان التعليم في بلادنا تعليم بدون تربية، تلقيني وليس نقدي، ولهذا لا يوجد لدينا طالب صاحب بذرة وفكر، لا توجد مساقات تحفز على التفكير وتغير في السلوك وتعميق ثقافة الحوار بل هناك مساقات تقليدية تعكس حالة المجتمع الراهنة، كما لا يوجد لدينا نظام تعليمي صارم يفرز الطالب المبدع الخلاق من الطالب الذي ينجح ب التدليس والعلاقات ، ويختبئ وراء الوطنية وتحرير فلسطين ، على الجامعة ان تقوم بفصل كل شخص، ولا أقول طالب، تشعر انه جاء إلى الجامعة من أجل إضاعة الوقت، والثرثرة، وسؤالي الكبير: اذا كان هذا الشخص فاشلاً في حياته الاكاديمية فهل يمكن ان ننتظر منه تحرير فلسطين؟

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.