حين اكتشفت أنني "شامي"

ليس من المؤكد أننا نستطيع تفسير المعنى اللغوي لكلمة شام،

فقد ذهب أصحاب المعاجم اللغوية في ذلك مذاهب شتى، منهم من قال بأنها الأرض التي تقع إلى الشمال (شام أو شامة تعني في اللهجة الفلسطينية الشمال) من الجزيرة العربية، وقال آخرون أنها مشتقة من الشَّامة، وقال آخرون بسبب أنها مرصعة بالقرى الكثيرة مثل الشامات على الجلد، لكنها جغرافيا تعني سوريا الكبرى قبل سايكس بيكو وقبل اقتلاع لواء الاسكندرون، وتضم أيضا الموصل وأجزاء من سيناء وشمال الجزيرة العربية (الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية)، وأجزاء من جنوب تركيا. أطلق الغرب، خاصة الطليان، في العصور الوسطى على هذه المنطقة تقريبا اصطلاح (Levante) والتي تعني المشرق أو حيث تشرق الشمس، والكثيرون مازالوا يطلقون عليها "سوريا الكبرى".

بغض النظر عن المعنى اللغوي للكلمة، إلا أن بلاد الشام قد عنت وحدة جغرافية وحضارية واحدة، مرت في الكثير من الفترات بتاريخ مشابه ومشترك، وتقريبا بنفس الحضارات، مما حولها إلى وحدة متكاملة منسجمة إلى حد بعيد. وبالرغم من خضوع بلاد الشام إلى الكثير من الإمبراطوريات العظيمة، إلا أن هويتها المحلية قد حافظت على نفسها بشكل يدعو للإعجاب.

تم استخدام الملصق للإعلان عن معرض فني بعنوان "أربعة فنانين رواد من بلاد الشام" ضمن مشروع عرض المجموعات المختلفة التي يقتنيها متحف جامعة بيرزيت وتعريف الجمهور بمحتوياتها والتي تزداد بشكل متواصل، وذلك بفضل التبرعات السخية التي يقدمها الفنانون ومقتني الأعمال الفنية للمتحف.

تشكل سكان بلاد الشام بالأساس من الآراميين (ومن ضمنهم السريان) والعرب بالإضافة إلى مجموعات عرقية متنوعة مثل الأرمن والأكراد والأشوريين والكلدانيين. اليوم تتشكل التركيبة السكانية من أغلبية عربية ساحقة (حوالي 90%) ومن الأكراد (حوالي 8%) ومن القليل من الأرمن والسريان والأشوريين والكلدانيين والشركس والشيشان والتركمان.

إن أسوأ ما أفرزته اتفاقية سايكس بيكو، ليس تقسيم بلاد الشام إلى أربع وحدات سياسية أصبحت كل وحدة منها تعرف بالدولة الوطنية، بل هو تعزيز الإقليمية، بحيث بات الفلسطيني يبحث عن هويته المحلية التي تميزه عن الآخرين، وكذلك فعل اللبناني والأردني والسوري، طبعا بدرجات متفاوتة، وبالتالي تجاوزت بذلك النظم السياسية، التي أفرزها الاستعمار بناء على مصالحة ولمصلحة إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، ما كان قد خطط له أصلا، بل وأبدعت هذه الأنظمة وابتكرت صراعات بينها أدت إلى تمتين الحدود الوطنية وترسيخها وكأنها حقيقة تاريخية.

ومع كل هذا، ترفض الهوية الثقافية الانصياع والانحناء أمام المصالح السياسية الضيقة لهذا النظام أو ذاك. عندما أسير في شوارع حلب وأتنشق هوائها أشعر أنني لم أترك القدس، فلغة الجسد وطعم المأكولات وأسماء الناس والرائحة التي أشم لا تختلف أبدا عن القدس، وهو أكثر انطباقا حين أدخل دمشق أشعر وكأنني لم أغادر نابلس أو طرابلس أو إربد. أنا لست بحاجة لأسأل عن معنى كلمة ما في بلاد الشام، بل تتطابق اللهجات الأساسية إلى حد كبير، ويمكنني الاندماج بدبكة في جبل لبنان بدون تردد، وأشارك بأغنية شعبية في حمص، واستمع لنفس الحكاية الخليلية في الكرك، وأردد مثلا صيداويا سمعته من جدتي، وأصيد السمك في بحر غزة بنفس شبكة الصيد التي يحملها صياد في اللاذقية، وأشرب عصير التمر هندي في كل مدن بلاد الشام، وأقف أمام واجهة مبنى في صور وكأنه عكاوي، واستمتع بطبخة دمشقية وكأنني لم أغادر مطبخ أمي. هذه الوحدة لا تعني عدم التنوع، ففلسطين نفسها تتعدد فيها اللهجات والمسميات والثقافات المحلية وفيها حدود المسخن وحدود المنسف وثقافة البحر والجبل والغور، وهو أمر ينطبق أيضا على كل بلاد الشام، لكن تبقى المكونات الأساسية نفسها متجذرة منذ آلاف السنين.

لم أدرك معنى "شامي" إلا حين زرت مصر لأول مرة قبل عقود، حين صدمت بنعتي "شامي"، فقلت لهم أنني "فلسطيني"، فقالوا يعني "شامي". فكان لا بد من زيارة دمشق لأكتشف بأن المصريين على حق، اكتشفت هناك أنني فعلا "شامي".

يستطيع الاستعمار ومن دعمه بوعي أو بدون أن يعيد تشكيل الحدود السياسية بناء على رغباته ومصالحه، لكن لا أحد يستطيع إعادة رسم حدود الهوية الثقافية، فأنا شامي.

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.