هل حقا يبرر الهدف الوسيلة، أم أن الأخيرة تحجب الهدف؟ 

تطغى على النقاش الدائر حول قيام طلاب في جامعة بيرزيت بإغلاقها مجموعة من المواقف تراوح حول قضية النظام: نظام الجامعة، وتنظيم الاحتجاج، وتنظيم الحوار، وما يشبه ذلك. ولكن النظام والتنظيم يكتسبان أهميتهما من وجود القواسم المشركة التي تشكل الأنظمة أدوات لاستدامتها. وتبقى المطالبة بالالتزام بالنظام شعارا سلطويا، ما لم تكن هذه المطالبة مرتبطة بالقواسم التي يحميها ويديمها النظام حفاظا على المصالح التي تشكل قاسما مشتركا يمكن أن نصفه بكونه يعبر عن الصالح العام. وبغير توفر هذا الشرط لا حاجة لاحترام النظام. فعندما يكون الهدف تحطيم الواقع وتغيير النظام، فلا يمكن احترامه! فالفعل الثوري، بخلاف النضال المطلبي، لا يلتزم بنظام، بل يتمرد عليه. بيد أن الفعل الثوري يتسم بوجود جمهور غاضب لديه رؤية للمستقبل، وأهداف، يتطلب تحقيقها تحطيم الواقع. وهذه مواصفات لا تنطبق على الأهداف التي أعلنها طلاب الجامعة وهي ذات طابع مطلبي وإصلاحي.  

ويدفعنا هذا التشخيص إلى الاعتقاد أن التمرد الطلابي يأتي لأسباب غير تلك التي أعلنوها. بل يأتي، في الأساس، رفضا لإصرار إدارة الجامعة على منع مظاهر "العسكرة" داخل الحرم الجامعي. وقد أعلنت إدارة الجامعة ذلك عبر بيان، وتلا ذلك فعل يمكن وصفه بالتحذيري أخذ شكل إخلاء الحرم الجامعي مرتين. وأشارت الإدارة إلى النظام، وإلى اتفاق سابق ومدونة سلوك حظيت على موافقة الطلبة. ولما أدى هذا إلى حالة التمرد التي نشهدها، بات الاحتمال الأقوى يكمن في أن الطلاب فهموا رسائل إدارة الجامعة كفعل سلطوي، يشكل مكونه "الآمر" وزنا أكبر من ذلك النابع عن الحرص على استدامة المؤسسة الوطنية العريقة، واستدامة دورها، ووظيفتها المجتمعية. ويبدو لي من كثرة الحديث عن ضرورة الحوار والتشاور في داخل الجامعة وخارجها أن هناك إجماعا في المجتمع على أهمية شكل وسياق الدعوة إلى الالتزام بالنظام. 

وإذا كان الحال كذلك، فعلينا الإصرار على نقاش حيثيات الموضوع، وعدم الاكتفاء بنقاش شكله أو تكييفه وحسب. واضح أن الجامعة تشكل بيئة لإنتاج المعرفة وليس لاستعراض العضلات. بل إن ما يتوجب "استعراضه" في الجامعة هو المعرفة، وأهمية الحرية، والفكر الناقد، وليس مظاهر الانضباط العسكري القادر على إنتاج مظهر يشكل محتواه أمرا ثانويا (فالجامعة ليست فريق كشافة). وفي هذا السياق أرى أنه كان على إدارة الجامعة أن تتبنى موقفا أكثر اتساقا، فلا يجب التغاضي عن ذبح الخراف في الحرم الجامعي بنفس المنطق التي ترفض فيه مظاهر "العسكرة". وبهذا المعنى، فإن إدارة الجامعة تأخرت في ردود الفعل التي كان بإمكانها إثارتها في مواضيع لا يمكن الاحتماء دفاعا عنها بذريعة تعلقها بمقاومة الاستعمار. 

أتوقع أن يقول أحدهم إن الضرورات تبيح المحظورات، وإن مظاهر العسكرة، وإن كانت غير ملائمة ومواتية لوظيفة الحرم الجامعي، إلا أنها ضرورية للمشروع الوطني التحرري. ولكن على من يتبنى وجهة نظر كهذه أن يبين أولا وجه الضرورة، وثانيا أن يوضح كيف تبقى هذه الضرورة أولوية ضمن ضرورات مختلفة بعد فحص التوازن بين هذه الضرورات. وإلا فبالإمكان استخدام مباني الجامعة المخصصة للتدريس لإسكان الطلاب (لإن إسكان الطلاب ضرورة)، بيد أنه لن يتبقى هناك مكان ليمارس الطلاب دورهم الطلابي الأساسي.  

والنقاش الأهم، هو النقاش حول ما الذي تؤتيه الاستعراضات التي تحاكي الاستعراضات العسكرية (ومختلف الرسائل التي تعلن القوة). فما مغزى اللثام؟ وإلى من يتم توجيه هذه الرسالة حول القوة؟ إذا كانت للاحتلال فلماذا لا يكون العرض موحدا لكل الطلبة؟ وإذا كان الهدف منه نضاليا، فما السبب في حصره داخل أسوار الجامعة؟ أنا، على سبيل المثال، أعتقد أن مظاهر العسكرة في الجامعة تشكل بديلا للنضال الفعلي وليس رديفا له. وهي تساهم في تعزيز الوهم حول السلطة والدولة بدلا من أن تساهم في المساءلة وفي تعزيز قيمة الحرية والإصرار على التحرر من الاستعمار. وفي الوقت الذي أرجو أن أكون مخطئا في تقديري لهذه الأمور، أرى أن الجامعة، في كل الأحول، تشكل مسرحا للنقاش والتفكير، وليس لاستعراض القوة البدنية. بل إن صرف الجهد في استعراض القوة البدنية يشكل هدرا للموارد الاجتماعية، فلا حاجة للتعليم العالي من أجل إنشاء فرق كشفية، أو عسكرية، أو ميليشيات. بيد أن هناك حاجة للتعليم وإنتاج المعرفة لإنتاج مشروع وطني.  

إن تدريب وتنظيم الشباب في ميليشيات ناجعة لا يحتاج إلى مؤسسة أكاديمية، ولا يحتاج إلى سنوات، ولا إلى خبراء وأكاديميين، فتاريخ النضال الفلسطيني يشهد في أكثر من مرحلة على عدم تأخر النضال بسبب قلة تدريب الجماهير. ولكن ما يحتاجه المشروع الوطني في هذه المرحلة هو القدرة على ابتداع وسائل نضال إضافية، وصوغ استراتيجيات وطنية، وهذه تحتاج إلى الجامعات. لقد شاهدنا بأم أعيننا كيف أدى خلط الاستراتيجيات بالأهداف قصيرة الأمد، والأنانية وتغليب الاستراتيجيات الفصائلية على الاستراتيجيات الوطنية، وغياب رؤية سياسية إلى شرخ الوطن، وإعاقة المشروع الوطني، وحجب النجاحات. لقد شكل دور طلاب وأساتذة جامعة بيرزيت في الانتفاضة الأولى دليلا دامغا على أهمية المعرفة النقدية، والإبداع في تصميم أدوات المشروع التحرري، والتنظير له، وتنظيمه، وهو دور قام على مبادئ الانضباط المجتمعي المنطلق من القناعة والمشاركة، لا من الطاعة العسكرية. 

إني أدرك جيدا بعض منطلقات النقد لوجهة النظر المعروضة أعلاه، فسيقول كثيرون، وقد قالوا وأعلنوا، إن المعضلة لا تكمن في داخل الجامعة، بل في " أيدي خفية" تصعد أو تدير الأزمة من خارج الجامعة. ولا شك أن تاريخ أزمات الجامعة يشهد على وجود هذا العامل بشكل لا يستهان به، ولكني أراهن على انتصار استقلال الجسم الجامعي، فالحفاظ على استقلال الجامعة بإدارتها، وطلبتها، وعامليها، يشكل مصلحة استراتيجية لكل الأحزاب والفصائل، فهي ساحة لتنافس الأفكار ولحرية الاعتقاد للجميع بدون استثناء، يشكل صونها شرطا لاستدامة الفعل السياسي وليس فقط الاقتصادي أو المالي أو التنظيمي قصير الأمد. 

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.