"بدوي في أوروبا"!

في محاضرة كنت ضمن حضورها قبل أشهر، للبروفيسور ياسر سليمان من جامعة كيمبريدج، ناقش باحترام شديد طروحات إدوارد سعيد الشهيرة عن الاستشراق، واتهامه واتهام آخرين كثر للغرب بشأن منطلقات الأخير الاستعمارية والعنصرية في تصوير الشرق بشكل مشوه، وأحياناً كموضوع جنسي. وعرض سليمان أمثلة تؤكد وتؤيد بعض أفكار سعيد؛ من نوع عرضه أغلفة لكتب تترجم من العربية أو من لغات أخرى وكتبها مسلمون، بصور تركز على الحجاب والمرأة والغلمان، وما إلى ذلك. ولكنه قال إنّ التفسير الاستشراقي الشهير بأنّ كل ذلك جزء من عداء ثقافي وتصورات حول الآخر، ليست دقيقة تماماً أو دائماً؛ فأحيانا هناك عوامل تجارية. والأهم أنّه قال إنّ العرب يمارسون ممارسات شبيهة إزاء الآخر، أحياناً. وضرب مثلا كتاب لجنة التحقيق في قضية العلاقة الجنسية بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، في تسعينيات القرن الماضي، والتي نشرت نتائجها في الولايات المتحدة، كتقرير رسمي، بأغلفة لا صور أو رسومات عليها، ولكن بالعربية نشرت برسومات ذات محتوى جنسي، وعناوين من نوع "الليالي الحمراء في البيت الأبيض"، وقُدّم الغرب بالتالي بصورة لا تختلف كثيرا عن طريقة تقديم الغرب للشرق.
أثار فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية الكثير من الخوف على قيم الحرية وقبول الآخر (تحديداً المهاجرين والشعوب الأخرى). من هنا، كتب الصحفي والكاتب الأميركي الليبرالي الشهير نيكولاس كريستوف، في عموده بصحيفة "نيويورك تايمز"، مقالة بعنوان "الرئيس ترامب.. قابل عائلتي"؛ ذكّر فيها ترامب أنه من أصل ألماني، وأنّ أميركيين من بينهم صحيفته "نيويورك تايمز"، لهم سجل في العداء لـ"الآخر"، من مثل كتابتها العام 1875 عن خوفها أن المهاجرين الأيرلنديين والألمان (من أمثال ترامب) سيحرمون الذين ولدوا أميركيين من "الحصة القليلة التي يحتفظون بها"، أو موقفها ضد المهاجرين اليهود في الماضي، واتهامهم أنهم ربما جواسيس نازيون، وضد الصينيين، وضد الأميركيين من أصل ياباني أثناء الحرب العالمية الثانية، حين اعتقل هؤلاء بأعداد كبيرة. وذكّر كريستوف ترامب أن عائلته كانت تنكر أصلها الألماني وتدعي أنها من السويد.
الواقع أنّ المواقف ضد المختلف والآخر، ليست شيئا جديداً، ولم ينج من ذلك أشد أنصار الحرية والليبرالية. فمثلا، كان جون ستيورات مل، في إنجلترا (1806-1873)، قد خضع لعملية هندسة تربوية غريبة؛ إذ تم تدريسه في البيت، وفي سن 12 كان قد أتقن اللاتينية، وقرأ أرسطو، وأفلاطون، وجيرمي بنثام، وتوماس هوبز، وآدم سميث، وديفيد ريكاردو. كانت لديه طفولة صعبة؛ فقد بدأ والده بدفعه إلى الدراسة المعقدة في اللغات والفلسفة منذ الطفولة المبكرة، ما جعله يعاني مشكلات نفسية دفعته إلى الاكتئاب والتفكير في الانتحار في سن الشباب، إذ عاش انهيارا عصبيا في سن 20 وكره والده، وأحب متزوجة "حبا عفيفا" مدة 21 عاما. ولكن كتابات ميل كانت ذات أهمية كبرى في تطوير الفكر الليبرالي الداعي إلى الحرية الشخصية والاجتماعية. إلا أنه عندما جاء الأمر للشعوب الأخرى، كان له موقف آخر؛ فقال إنّ الدعوة للحرية لا تنطبق على كل الشعوب. وقال إنّه يمكن "أن نخرج من دائرة اعتباراتنا المجتمعات المتخلفة التي يمكن اعتبار الأقوام التي تؤلفها أقواما قاصرة. فالصعوبات المبكرة التي تعترض سبل التقدم الذاتي من الخطورة بحيث لا يبقى هناك أي مجال للمفاضلة بين وسائل التغلب عليها. الحاكم المشبع بروح الإصلاح يجوز له أن يستعمل أي وسيلة توصله إلى الهدف الذي لا يبلغه بأي من الوسائل الأخرى. إن الاستبداد أسلوب شرعي في حكم البرابرة شريطة أن تكون الغاية تحسين حالهم. وتحقيق تلك الغاية فعلا يبرر تلك الوسيلة". وهناك الكثير من الليبراليين أمثال ميل في موقفهم تجاه الشعوب الأخرى.
من بدايات الروايات التي قرأتها في حياتي، طفلا، رواية جمعة حماد "بدوي في أوروبا". وسأعترف أني لم أتخلص من صور وأفكار تلك الرواية عن أوروبا حتى سافرت إلى هناك.
يطرح ترامب بآرائه ضد المهاجرين والمسلمين، وآخرين مثل المكسيكيين، تحديا تاريخيا: هل يمكن للعالم في عصر العولمة أن يخطو خطوة أخرى تقلل من غموض الآخر ومن الخيالات بشأنه؟ وأن يغير من نظرة الإنسان إلى الإنسان؟

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.