توجهات حديثة في التعليم العالي؛ التكنولوجيا الرقمية، التخصصات البينية، والتدريب والعمل أثناء التعليم

التعليم الناجح يتعلق أولاً بتوفر الدافعية لدى المتعلم، وثانياً بتوفير الامكانيات والمصادر اللازمة لإجراء العملية التعليمية بالشكل المطلوب. ومع بداية هذا المقال، الذي يستعرض بعض التحولات والتوجهات الحديثة في التعليم العالي كنتيجة للتطورات المتلاحقة في التكنولوجيا الرقمية، فلعله من الضروري التأكيد على مركزية صقل الدافعية للتعلم لدى الطالب في نجاح العملية التعليمية ووصولها لمبتغاها الفكري والنهضوي على مستوى الفرد والمجتمع، مع التأكيد في ذات الوقت على المسؤولية المحورية، المعرفية والتربوية والانسانية، التي يجب أن يضطلع بها المعلم في تغذية الدافعية والطموح لدى الطلبة من أجل التعلم المستمر، والذي ينبغي أن يتواصل لديهم مدى الحياة. وفي هذا السياق يمكن اقتباس المقولة الشائعة للفيزيائي الفذ ريتشارد فاينمان "لا يحتاج الطلبة إلى معلم مثالي. يحتاج الطلبة إلى معلم سعيد، يجعلهم متحمسين للقدوم إلى المدرسة وتنمية حب التعلم".

إلى جانب تأثيراتها المتعددة في شتى مجالات الحياة، فإن التكنولوجيا الرقمية تقود بشكل متسارع إلى تغييرات محورية في التعليم العالي من جوانب متعددة، تبدأ من  إرشاد الطلبة نحو التخصصات الجامعية التي تناسبهم، مروراً بالتأثير في العملية التعليمية والبحثية، وطرق قياس وتقييم الأداء، وهيكلة وإدارة العملية الأكاديمية وضمان الجودة، ومطابقة احتياجات الوظائف وفرص العمل مع نوعية الخريجين المطلوبين.

ضمن هذا السياق، فيما يلي ملخص بثلاثة من أهم التوجهات العامة التي يشهدها التعليم العالي تحت تأثير التكنولوجيا الرقمية:

أولاً- التنامي المطرد في إدماج التكنولوجيا الرقمية في العملية التعليمية وفي ادارتها

التكنولوجيا الرقمية تؤثر في العملية الأكاديمية من جوانب متعددة، وكما يرد في مقالة عن دور التكنولوجيا في تشكيل مستقبل التعليم العالي(1)، فإن ذلك يمكن اختصاره في عبارة استفهامية-استدلالية: "ما ومن وكيف وأين ومتى"، ويمكن توضيحه بشكل موجز كالتالي؛

  • ما يتم تعليمه: وهذا يشمل المحتوى والمناهج، بحيث تتاح في العملية التعليمية مساحة أوسع لتطوير المهارات القادرة على التكيف مع التطوير المتلاحق، من خلال التعلم الذاتي والبحث العلمي، ودعم الكفاءات الشخصية. تزداد أهمية ذلك مع تسارع دورة انتاج المعرفة وتجددها، والتي أصبحت لا تتعدى بضع سنوات في بعض التخصصات، حيث تتقادم المعرفة سريعاً وتنشأ باستمرار احتياجات لمواكبة المعارف المتجددة.
  • من يتم تعليمه: الوصول لشرائح أوسع من الطلبة عبر موضعة التعليم ضمن الحياة اليومية، وهو ما يتيح بالتالي التعلم بوتيرة تتناسب مع احتياجات متفاوتة، وبشكل مرن يراعي الفروق الفردية بين المتعلمين. هذا الأمر يكتسب أهمية متنامية مع تزايد نسب الطلبة الساعين للمزاوجة بين العمل والدراسة، كما سيرد لاحقاً.
  • كيف يتم التعليم: التغير في طرائق وبيداغوجيا التدريس، واستخدام نماذج حديثة مثل الصف المقلوب، وادماج تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والواقع الافتراضي في العملية التعليمية. حيث بدأت الجامعات المتقدمة ببناء نماذج محاكاة للواقع وتجارب ومواد تعليمية افتراضية في تخصصات مختلفة تجعل من التعلم أكثر متعة والفهم أكثر يسراً، وتتجاوز ممارسات "التعليم بالملعقة". كما قيل، على المدى البعيد المعرفة المكتسبة من التغذية بالملعقة لن تتجاوز حفظ شكل الملعقة، بالتالي فإن ما يصنع الفارق الحقيقي هو تكريس رغبة وممارسات التعلم الذاتي لدى المتعلم.
  • أين يتم التعليم: إستخدام الوسائط التكنولوجية في بث المحاضرات وعقدها افتراضياً بشكل جزئي أو كلي، وإتاحة المجال بالتالي للمرونة المكانية، حيث يتسنى للمتعلم المشاركة في المحاضرات عن بعد عندما يتطلب الأمر.
  • متى يتم التعليم: أصبح تسجيل المحاضرات وتحميلها على منصات رقمية يمنح المتعلم مرونة زمانية، بحيث تتيح التعلم في أوقات مختلفة وإعادة مشاهدة المحاضرات بشكل متكرر كلما لزم.

هذه العوامل تساهم في تعزيز ممارسات ومفاهيم التعلم الالكتروني ضمن البيئة الجامعية، ومن أجل تحقيق التحول الرقمي المطلوب فإن هناك حاجة لثلاثة عناصر أساسية؛ بنى تحتية وتجهيزات صفية مناسبة، واتباع الأساتذة طرائق بيداغوجية مناسبة في التعليم والتقييم، وعملية ادارية رقمية ناظمة. من الضروري التنويه هنا أن تعبير التعلّم الالكتروني يمكن استخدامه للتدليل على عدة أنماط من استخدام الوسائط الرقمية في العملية التعليمية: استخدام التكنولوجيا الرقمية كعنصر داعم للعملية التعليمية التقليدية، أو إجراء العملية التعليمية جزئياً بشكل وجاهي وجزئياً بشكل إلكتروني "التعليم المدمج"، أو إجراء العملية التعليمية عن بعد بالكامل من خلال الوسائط الإلكترونية(2). هذه الأنماط توفر للتعليم العالي طيفاً من الخيارات التي يمكن اللجوء اليها تبعاً لمقتضيات الحاجة، مع التأكيد على أن التحولات الرقمية في التعليم تفرض نفسها بشكل متزايد كمسار اجباري، مما يحتم ضرورة تعظيم الاستفادة من الامكانيات التكنولوجية التعليمية والبحثية، دون التفريط بأهمية الحرم الجامعي كفضاء تعليمي وحياتي يعتمد التواصل الانساني المباشر والتجارب الاجتماعية والنشاطات اللامنهجية كوسائل أساسية في صقل شخصية ومهارات الطلبة.

ثانياً- التوسع في التخصصات البينية و الحقول العابرة للتخصصات التقليدية

التحديات والمآزق التي تعاني منها البشرية حالياً على المستويين الفردي والجماعي لا يمكن عزلها عن الاضطراب في توازن الأدوار للعلوم الطبيعية والتطبيقية من جهة والانسانيات والعلوم الاجتماعية من جهة أخرى، حيث يتم الاستثمار في الأولى بمعدلات تفوق بكثير الاهتمام الذي تلقاه الثانية(3). هذا التفاوت يقود إلى استنزاف متعاظم للموارد الطبيعية واستهلاك منفلت ينجم عنه مستويات كبيرة من التلوث والتأثيرات السلبية على الاتزان الايكولوجي، وعلى الأمن الغذائي والبيئي والصحي، وعلى استقرار المجتمعات وضروراتها الحياتية. بالإضافة إلى ذلك فإن التقدم التكنولوجي الرقمي المتسارع في مختلف مجالات الحياة أصبح يفرض على التخصصات المختلفة البحث عن السبل اللازمة للتشبيك مع هذه التكنولوجيا من أجل عالم المستقبل.

من هنا فإن التحديات المعقدة التي تواجهها البشرية على أصعدة متعددة تفرض على النظام التعليمي والتربوي، من بين أنظمة أخرى، بلورة مقاربات مبتكرة لفهم هذه التحديات والاستجابة الفاعلة لها. وهذا يتلخص بشكل أساسي في استحداث تخصصات عابرة للحقول التقليدية وتخصصات بينية، تساهم بشكل أفضل في فهم جدلية وتكاملية العلاقة بين التكنولوجيا والبيئة والمجتمع، وتكسب الخريج الجديد مهارات العمل ضمن فريق ينتمي إلى تخصصات مختلفة، وتزوده بالكفاءات والقدرات التي تتيح التكيف مع التغيير والتأقلم مع البيئات المتنوعة.    

في هذا السياق، إلى جانب القفزات الكبيرة في التخصصات المرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والأمن السيبراني، يأتي التوسع في تخصصات بينية وتخصصات عابرة للحقول التقليدية تسعى للاستفادة من الامكانيات الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الرقمية، مثل علوم المواد والنانوتكنولوجي، اللسانيات الحاسوبية، الانسانيات الرقمية، القانون والتكنولوجيا، الهندسة الطبية الحيوية، التسويق الرقمي وسيكولوجيا المستهلك، الاقتصاد والطاقة المتجددة، وعلم البيانات والاجتماع، وغيرها الكثير.

ضمن هذا الاطار تمتلك الهندسة الطبية الحيوية مثلاً آفاقاً واسعة للتشبيك بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية وبين الطب والرعاية الصحية والتدريب على تصميم واستخدام الأجهزة والمعدات الطبية مثل الأطراف الصناعية، والأجهزة القابلة للزرع مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب، بما يساعد في تشخيص ومعالجة الأمراض وتحسين الرعاية وجودة الحياة للمرضى من خلال المتابعة المستمرة باستخدام التقنيات الحديثة.

أما النانوتكنولوجي فيمكنها الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية على عدة مستويات؛ في تصميم وتصنيع المواد النانوية من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد مثلاً، وفي تحليل البيانات الكبيرة التي يمكن الحصول عليها من التجارب والتطبيقات، وفي التحكم بالأنظمة النانوية والاستشعار وقياس الخصائص الفيزيائية والكيميائية للتفاعلات وللمواد بدقة عالية.

كذلك فإن التسويق الرقمي والذي أصبح دارجاً وواسع الانتشار بفضل الوسائط الرقمية المختلفة، يتوسع باتجاه مزيد من التشبيك مع موضوع سيكولوجيا المستهلك وتوجهاته، حيث أن فهم دوافع وتصورات ومشاعر المستهلكين تساعد في بلورة استراتيجيات تسويقية أكثر فعالية ومردوداً اقتصادياً، وبما يتضمن تحليل البيانات الرقمية التي يتم جمعها باستمرار من المستهلك وتوجيه التسويق نحو تقديم محتوى أكثر تناسبية مع احتياجات ورغبات الجمهور المستهدف من المستهلكين.

ومن جانب آخر، فإن الانسانيات الرقمية تقوم على توظيف التكنولوجيا الرقمية في العلوم الانسانية كأداة من جهة وكموضوع للدراسة من جهة أخرى. فالتكنولوجيا الرقمية تتيح القيام بأبحاث كمية وكيفية على نطاق واسع جداً، وتساعد في تنظيم وتحليل البيانات الكبيرة من أجل الوصول لفهم أعمق وأوسع للظواهر والأحداث في مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية المختلفة. ومن الجانب الآخر فإن التقنيات والأدوات الرقمية ذاتها يمكن أن تكون موضوعاً للدراسة باستخدام منهجيات العلوم الانسانية والاجتماعية، وما تتيحه من أدوات التحليل والنقد والقراءات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا الأمر يكتسب أهمية كبيرة من أجل المساهمة في بلورة أخلاقيات الاستخدام للمنتجات التكنولوجية، والتخفيف من التلوث وهدر الموارد.

ثالثاً- التعليم، التدريب، والعمل في آن معاً

مع ازدياد أهمية وتأثير التدريب والمهارات والمكون البحثي في العملية التعليمية، فهناك اهتمام متعاظم بأنماط التعليم التي تزاوج بين الانتظام في التعليم الجامعي والتدريب في العالم الحقيقي وسوق العمل. يأتي ذلك بالتزامن مع تزايد أعداد الطلبة الجامعيين الذين يعملون أثناء الدراسة في قطاعات مختلفة، سعياً لاكتساب خبرات عملية أو تدريبية أثناء الدراسة، أو لأسباب تتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية للطلبة المعنيين. على سبيل المثال، ارتفعت نسبة الطلبة الجامعيين العاملين في دول أوروبية مثل هولندا والتشيك وألمانيا إلى حوالي 70٪ من مجموع الطلبة، حيث يقضي الطلبة العاملون ما قد يصل إلى 30 ساعة أسبوعياً في العمل. وهناك دراسات تجري لفحص تأثير ذلك على نتائجهم التعليمية، وعلى نسب التسرب من الجامعة، وعلى انخراطهم في الحياة الجامعية والنشاطات اللامنهجية(4). هذه الممارسة تنتشر عبر العالم، وهذا الموضوع يحتاج في جامعاتنا وبلادنا إلى البحث والتحليل مع تزايد أعداد الطلبة الذين يعملون أثناء الدراسة الجامعية لأسباب متفاوتة.

ضمن الأنماط الحديثة في هذا المضمار يمكن تعداد ما يعرف بالتعلم القائم على المشاريع، الذي يتيح تطبيق المعرفة في سياقات واقعية، والتعلم الشخصي الذي يقوم على تلبية الاحتياجات الفردية للمتعلم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، والتعلم التعاوني باستخدام الشبكات الاجتماعية الذي ينطوي على التعاون بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس عبر منصات التواصل الاجتماعي والشبكات التعليمية، والتعليم المعتمد على الكفاءات، حيث يتم الانتقال من نظام التعليم التقليدي المستند على الساعات الدراسية إلى نظام يركز على تحقيق كفاءات ومهارات محددة بوتيرة تتناسب مع احتياجات المتعلم. يأتي ذلك بالتزامن مع التوسع الكبير في الاستفادة من فرص التبادل التعليمي للطلبة وللأساتذة بين الجامعات الدولية، بما يخدم ليس فقط التبادل الأكاديمي وإنما أيضاً التفاعل مع ثقافات مختلفة وخوض تجارب حياتية جديدة.

هذه الأنواع المتعددة من التعليم يمكن أن تقود إلى الحصول على مؤهلات أو شهادات جزئية أو خاصة، يتم مراكمتها من أجل اكتساب خبرات معينة وتحسين فرص العمل والتوظيف. ومع ازدياد أهمية وتأثير التدريب والمهارات والمكون البحثي في العملية التعليمية، فهناك ممارسات تقوم على توثيق المهارات والكفاءات المكتسبة للمتعلم في كشف العلامات والخبرات، وليس الاعتماد فقط على العلامات النهائية لتعلم المساقات. يترافق ذلك أيضاً مع تنامي أهمية ما يعرف بالتقييم التكويني، الذي يهدف بشكل أساسي إلى مراقبة تعلم الطلبة أثناء المساقات أو الدورات بشكل متتابع من خلال اختبارات قصيرة وواجبات ونقاشات يتم استخدامها في تحديد نقاط القوة والضعف لدى الطلبة وتطوير أدائهم. هذا يساعد الأساتذة على معالجة المشكلات التي يعاني منها الطلبة دون تأخير، حيث يرصد احتياجات التعلم والتقدم الأكاديمي أثناء الدرس أو الوحدة التدريبية، بحيث يمكن إجراء تعديلات على المحتوى والتقنيات التعليمية وتوفير الدعم الأكاديمي، حسب الضرورة.

ختاماً، يقول شوقي " قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا"، تأكيداً على واجب الاعتراف بفضل المعرفة من خلال احترام مصدرها. ضمن هذا المنظور من الضروري التنويه أن كتابة هذه المقالة انطوت من وقت لآخر على توجيه عدد من الاستفسارات والأسئلة إلى "ChatGPT" و "Gemini"، وكانت هناك اجابات ومعلومات مفيدة. في ذات السياق، ومع توسع النقاش بخصوص طرق الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي وتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، فمن المهم التأكيد على ضرورة الانفتاح البناء على هذه التكنولوجيا، كونها تساهم في توجيه القدرات الادراكية والمعرفية للطلبة نحو النشاطات الإبداعية بدل النشاطات الروتينية، مع الانتباه إلى المحاذير التي ينطوي عليها هذا الانفتاح ومنها التحيزات المتعددة للذكاء التوليدي والمعلومات المضللة أو الخاطئة التي قد ينتجها، بالاضافة إلى ضرورة مراعاة حقوق التأليف والنشر.  وجبت الاشارة في هذا المعرض إلى الحاجة لبلورة مدونة أخلاقيات حول استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي والتقنيات الرقمية في التعليم المدرسي والجامعي، وإلى أهمية المتابعة المستمرة من أجل الاستفادة من الخبرات التي تتراكم داخلياً وخارجياً في هذا المجال.

 

مراجع

1. Diana El-Azar, 4 trends that will shape the future of higher education (weforum.org)
2. طلال شهوان، التعليم الجامعي والوسائط الرقمية: نحو تكامل الأداة مع الغاية، مدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية
3.  طلال شهوان، الانسانية في القرن 21 .. بين غنى التكنولوجيا وفقر الحكمة، وكالة وطن للأنباء.
4. https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/21568235.2022.2047084

الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن رأي الجامعة.